حق الحياة.. وجهةُ نظر أخلاقية

    تذكر كتب الأدب القديم فيما يُضرب عند العرب مَثلاً لشدةِ الندامة، وبالغِ الحسْرة قولهم: نَدِم فلانٌ ندامةَ الكُسَعِيِّ!. وقصة المثل بإيجاز؛ أن بَدوياً عمل على صناعة قوسٍ للصيد بمهارةٍ وإتقانٍ، حتى إذا أتمها ورَاشَ سِهامها، خرج ليلاً لصيد الغزلان، فرمى غزالاً بأول سهمٍ في الظلام الحالك فأبصر من بُعدٍ شَرارة قد انقدحت من الحجارة، فظن أن السهم أخطأ الصيد وأصاب الحجارة، وكرر الأمر مرتين أو ثلاثاً على ذات المنوال، فاستبد به الغضبُ وكسر القوس والسهام المتبقية ورماها، فلما أصبح الصباح مر بالمكان فوجد ثلاثة غزلان كلها مقتولة قد اخترق السهم لقُوَّته جسدها حتى أصاب الحجارة، فندِم تلك الندامة المعروفة.

لعل العُنصر المؤثر في هذه القصة التي صارت مضرِباً للمثل أن الكُسَعيَّ بنى استنتاجه على مؤشرات ثبتَ فيما بعدُ أنها كانت خاطئة، وكان استعجاله  في التخلص من فُرصته في أدَاةِ الصيد الفريدة خطأً فادحاً أضاع عليه نُهزةً ثَمينة وجرَّ عليه شهرةً كانت في الحقيقة غير مَحمودة.

إن تجليات البناء الكوني في كثير من أشكالها ليست سوى ظواهر متكررة هي عبارة عن فُرصٍ يُفضي بها طول التكرار إلى تحقيق غايةٍ مُفيدة ومعينة في إحدى المرات؛ فتكون بذلك ظاهرة التكرار وترددها هي ما يولد الغاية في آخر المطاف، وعلى هذا الأساس قامت المناهج التجريبية التي من بين ركائزها الأساسية عنصر التكرار والمحاولة؛ وبه نشأت الاختراعات واكتُشفت الأدوية والمراهمُ وقامت حلولٌ لمشكلات عظيمة لم يدُرْ في خلد الإنسان يوماً أنها ستحظى بحلول.

وليس توالُدُ الأجنة بين المخلوقات ومنها الإنسان ـ إلا لوناً من هذه الأشكال التي قام عليها الوجود؛ فكل جنين بدأ في شق طريقه إلى رحم الحياة فُرصةً جديدة مفتوحة يحق لها أن تدلي بِدَلوها وتأخذ حيزها ضمن هذا الوجود الفسيح وتعبُر منه كغيرها من الكائنات، وليسَ لِزاماً على كل فرد من بني جنسه أن يكون باقعةً فريداً وشخصية فذة تُحدث طفرةً في عالم الإنسان، فلو لزم ذلك لبطل في الأساس معنى العبقرية والنبوغ.

وإن مما ينبغي أن يتم فهمه بشكل سليمٍ وصحيحٍ أن أهم ميزة يتميز بها الإنسان عن غيره من الكائنات قدرتُه الفريدة على تجاوز ذاته وإمكاناته البسيطة في حدودٍ تكون فيه شبهَ منعدمة، إلى آفاق واسعةٍ تكاد تكون أغرب من الخيال، فهو ليس آلة ميكانيكية مُركبة تتعطل فائدتها وتتهاوى أركانها في الحال بسبب غياب أبسط جزء من أجزائها.

يذكر عالم النفس النمساوي فيكتور فرانكل مؤلف كتاب “الإنسان يبحث عن المعنى” قصة مطولة لرجل سادِيِّ كان يُشرف على عمليات التعذيب في أحد المعتقلات النازية  ثم سُجن بعد انتهاء الحرب، فيقول بعضُ من صحبه وهو سجين: إلا أنه قبل موته قد أثبت أنه أفضل زميل يمكن أن تتخيله!،  لقد كان يُقدم السلوى والمواساة لكل شخص، وقضى حياته وفق أسمى معيارٍ أخلاقي معنوي يمكن تصوره، وكان أحسنَ صديق قابلتُه أثناء سنواتي الطويلة في السجن!” ويعلق الدكتور فرانكل قائلاً: تلك هي قصة هذا القاتل، فكيف يمكننا أن نجرؤ على التنبؤ بسلوك الإنسان؟ ربما نتنبأ بحركات ماكينية، بل أكثر من ذلك، ربما تحاول أن تتنبأ بميكانزمات أو ديناميات النفس الإنسانية كذلك، ولكن الإنسان أكثر من نفس!.

ولا يخفى أن قصور زاوية النظر في هذه النقطة بالذات كان من أهم الأسباب التي أدت إلى فشل الكثير من النظريات التاريخية التي تجعل صيرورة الظواهر الاجتماعية لدى الإنسان حتمية جبرية،  كأنهُ آلة جامدة ذات بِنية ومعايير محسوبة بدقة لا يمكنها الخروج عن النمط، في إغفال تام للقدرة العجيبة لدى الإنسان على تجاوز كل هذه التوقعات في ساعة من نهار لسبب أو أسبابٍ كانت أبعد ما تكون عن تنبؤات الدارسين.

في القديم كتب الأديب المعتزلي أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 هـ/ 868م) كتاباً تحت عنوان: “البُرْصانُ والعُرْجَانُ والعُمْيَانُ والحُولان” جمع فيه تراجم أهل زمانه ممن كانوا متصفين بإحدى هذه العاهات خِلقَة أو بسببٍ عارض، وكان لهم فيما بعدُ إسهامٌ وحسنُ سيرة في بيئتهم وحضارتهم، فنجده يقول في مستهل الكتاب: والعُرْجُ الأشرافـ أبقاك الله ـ كثيرٌ والعُمْيُ الأشراف أكثرُ، وإن جماعةً فيهم كانوا يبلغون مع العَرَج ما لا يبلغه عامةُ الأصحَّاء، ومع العمى يُدرِكون ما لا يُدرك أكثرُ البُصَراء.” وإذا كان هذا الحالُ في زمان كانت فيه أبسط المقومات التي تُيَسِّر العيش على هذه الفئة شيئاً متعذّراً، فأَيُّ عذر يكون للإنسان في زمان تجاوز فيه الكثير من هذه الأمور إلى حد لم يكن في سابق الأزمنة يخطر للإنسان على بالٍ.

وأنت في الألفية الثالثة حينما تحدو بك خطوات قدميك بين الفَيْنة والأخرى إلى رفوف إحدى المكتبات، أو تَهدِيك أناملُ يديك وأنت تتصفح مواقع التواصل، لا شك تقفُ منها على نِتاجٍ إنساني غزير بوأَ هؤلاء الأفراد منذ الأزمنةِ السحيقة هذه المنزلة الساميةَ، وإذا بك حين ترجع إلى سيرهم وتراجمهم تقف على أعجب من ذلك، فترى أن كثيرا منهم كان يعاني نقصاً في بعض الأدوات التي حظي بها ألوف مؤلفة من بني الإنسان ممن لم يبلغوا شِرْويْ نقير مما بلغهُ؛ فأبو العلاء المعري وبيتهوفن وتوماس آديسون وطه حسين وبشار بن برد وعبد الله البردوني والرافعي وستيفن هوكينغ…  كلها شخصيات من أعراقٍ وأزمنةٍ وأمكنةٍ وأديان وثقافاتٍ مختلفةٍ تجاوزت حواجزَ البُؤْس والفقر والمرض والفاقة والحاجة، وكان سمتُ العبقرية هو الخط الرابط فيما بينها.
وقد يقال في هذا السياق إن هذه النماذج في حُكم النادر، وافقت ظروفاً استثنائية وطفرات وصدفاً زمانية ومكانية جعلتها تصير إلى ما صارت إليه، والحقيقة أن هذا ينسحب كذلك على النماذج التي كانت خالية عن هذه العاهات بشكل يكاد يكون أمراً طبيعياً!.

مقالات مرتبطة

وإنك لا تكاد تجد مريضاً أو ذا عاهةٍ ينتحرُ بسبب عاهته بالذات إلا بنسبة لا تختلف عن نسبة الانتحار عند من لا يعاني منها قيدَ أنمُلة، هذا إن لم نجازف بالقول: إن حالة الانتحار عند الأصحاء جسدياً أكثر من الصنف الآخر.

لذلك، فمقولة: (العقل السليم في الجسم السليم) التي تلقيناها ونحن صغار إنما تعكس ما ينبغي أن يكون عليه الأمر في الحالات الطبيعية، وتنبه على واجب الوقاية من أسبابٍ قد تؤدي إلى تدهور وظائف الجسم الطبيعي في أداء عمله على الوجه المطلوب، لكنها ليست قاعدة مُلزِمةً في حق من سبق عليه القَدَر في ذلك حتى قبل أن يولد، أو بعارضٍ لا يدَ لهُ فيه.

لقد كانت فكرةُ هتلر ومن كانوا على سمته، في القول بأن الأفراد غير (المُنتِجين) ينبغي التخلص منهم وإزاحةُ عبئِهم عن كاهل المجتمع أمراً في غاية الفظاعة، جسَّد بشكلٍ واقعيًّ مريرٍ ما يمكن أن تصل إليه وحشية الإنسان حينما ينسلخ من القيم والمبادئ الدينية والأخلاقية إلى حمأة الأنانية وعبادة الذات حيثُ لا قانون يعلو عليه، أو حين يكون القانون مؤيداً لتوجهه المُنحرِف.

وكثيراً ما يقول الفلاسفة: إنه لا فرق بين وجود الشيء بالقوة ووجوده بالفعل؛ فأنت حين تمزق ورقة “يانصيب” فيها رقمٌ ظهرَ فيما بعدُ أنه الرقم الفائز، لن تكون حسرتُك على أن تُسرق منك الأموال بعد أن تتسلمها أقل من حسرتك على تمزيق الورقة قبل ذلك، لأنك توقن في قرارة نفسك أنها كانت ستؤدي وظيفتها بلا شك.

وكثيراً ما يتمُّ إغفال انعكاس هذه الاحتمالية في الواقع بشكل غريب؛ فكم من مولود ولد وفي فمه ملعقة من ذهب ـ كما يُقال ـ ثم كان بعدُ وبالًا على أهله وعشيرته، وعاث في الأرض عتواً وفساداً!. وكم من مولود استهل صرخته في كوخٍ بسيط في قرية نائية لم يكد أبواه يجدان ما يفترشان له حينها، ثم يكون مدْفنُه فيما بعدُ شاهداً يحج إليه آلاف الزائرين حُبّاً وإجلالاً!.

إن التذرع بالشفقة والرحمة في قطع الطريق على من بدأ مسيرته نحو هذه الحياة بأن ذلك من مصلحته، كي لا يعيش حياة بئيسة وفقيرةً ينهشُه فيها الفقرُ والجهلُ والفاقةُ والمرضُ، ما هو سوى تسَلُّل فاضح وفاشل، يُبَرِّر بكذبة صلعاء تهرُّبه من مسؤوليات الحياة التي صارت الأجيال الأخيرة تكاد تنوء بأبسطها فضلاً عن أصعبها.

لا أحد يضمن لولده الحياة السعيدة والهنيئة والتعليم المتميز والغذاء الوفير والمسكن الفسيح… هي أمور ينبغي أن يسعى كل أبوين لتوفيرها، لكنها ليست شرطاً في تقرير حق الحياة، فليس من العيب أن يولد الإنسان عادياً ويعيش عادياً ويموت عادياً. هناك مقولة لإبراهام لينكولن يقول فيها: “إن الله يحب عامة الناس؛ لهذا يخلق منهم الكثير”، فعامة الناس هم الذين يبنون المساجد ويملؤونها، ويعمرون الأسواق، وينجبون العباقرة، هم وقود الحرب ورُعاة السلام، صانعو السلاح ووقوده، مقيمو الأعراس والمآتم، محترمو القراءة والكتابة، جمهور الخطباء والوعاظ، زهرة الدنيا وفكاهتها… كما يقول آخر.

إن سُنًّة البؤس والفقر والتعاسة والمرض أمور كانت ـ ولا تزال ـ واقعاً في كل مجتمعات البشرية منذ طفولتها، ولا يمكن إزالتها كلية  بخطوات غير معقولة كمصادرة الحق في الحياة؛ فسُنة الحياة تعلمنا معرفة الأشياء بأضدادها، فلا معنى للجمال دون قُبح، ولا ميزة للقوة دون ضعف، ولا قيمة للغنى دون فقر…

وأخيراً،  فإذا كان هذا هو الحال في ظروفٍ وملابساتٍ يكون فيها منعُ ولادة الجَنين أمراً قد يبدو في ظاهره معتمداً على أسباب مقبولة؛ فإن من غريب القول، وعجيبِ الخُلُق أن يُناقشَ الموضوع لأمور موغلة في العبثية يمكن أن تلخص في آخر المطاف في أن أحد الأبوين أو كِلاهما كان في مزاج سيء في ظهيرة ذلك اليوم الذي حُرم فيه الطفل من حقه في الحياة!.

1xbet casino siteleri bahis siteleri