أحلام اليقظة والخيال وسط الأدغال

5٬562

راودتني مجموعة من الأفكار المزعجة وأنا أحضر مستلزمات المبيت في وسط أدغال الأمازون : الأرجوحة الشبكية “الهاماك” أو الثوب الذي نعلقه في الأشجار، حبال، سروال سميك، معطف واق من المطر، حذاء الرحلات الجبلية، طارد البعوض، بعض الفواكه وقنينة صغيرة من الماء. تفاوتت هذه الأفكار في نسبة الحدوث من إمكانية أن يلسعني أي نوع من الزواحف- الأناكوندا أو الجاراراكا اللذان يعيشان في مياه الغابة – أو حيوان كالجاگوار الذي قتل أحد السكان المحليين السنة الماضية مرورا بإمكانية وفاة المرشد “جوزي” بسكتة قلبية أو جلطة دماغية كما يموت فجأة الكثيرون من الناس حول العالم (150000 سكتة قلبية في السنة في البرازيل لوحدها)

موت “جوزي” يعني بطبيعة الحال إستحالة الخروج من وسط أدغال أكبر غابة في العالم. “جوزي” الذي قضى نصف حياته يتعلم أساليب الحياة والبقاء والنجاة في الغابة أقر لنا بأنه لا يدرك إلا ٢٪؜ أو أقل من أسرار الأمازون.

راودتني كذلك إمكانية سقوطنا في حفرة كبيرة والبقاء بها إلى أن تجف السكريات التي تسري في عروقنا، وتبدأ الذهون في التحول إلى طاقة، وعند انقضاء مخزونها تبدأ العضلات بالإضمحلال كآخر مصدر للطاقة، ثم يبدأ كل عضو بالدخول في موت بطيء.

أفكار كثيرة زارت عقلي منها ما هو ممتع وشبيه بأفكار أفلام “إنديانا جونس” أو “كاسط أواي”، ومنها ما هو غريب للغاية. فبما أننا كنّا ننقسم إلى ثلاث مجموعات، صينيين وفرنسيين ومغربيين – بحال داك النكت اللي كيبداو ب : هذا واحد الشينوي وفرانساوي ومغربي مشاو للأمازون – بدأت أفكر مسبقا في كيفية التعايش فيما بيننا إذا ما فقدنا “جوزي” وطريقة التعامل في جو هيتشكوكي من الرعب والهلع بين أشخاص من مختلف الثقافات تائهين وسط الأدغال يحركهم دافع البقاء فقط. بدأت أطرح الأسئلة : ماذا يمكنني أن أفعل مع هؤلاء إذا ما تحتم علي العيش معهم لأسابيع أو شهور من التيه في مكان خطير كهذا ؟ كيف سنقضي وقتنا؟ وكيف سنتعايش مع هذا الوضع الجديد؟ كل منا من عاصمة وثقافة مختلفة – الرباط، باريس، بكين- محملين بنفس المعدات : هواتف، كاميرات، بطاريات شحن.

رحت أتخيل السيناريو التالي بعدما ستنقضي بطاريات هذه الآلات وسينقضي الأكل الذي نحمله، سيبدأ كل منا يأكل من ورق الأشجار وثمارها، ويتعود على النوم في الهاماك. أليس هذا ما يضمن للإنسان الحياة لسنوات : الأكل والنوم..؟

لو كان الأمر كذلك لما هجر الإنسان الطبيعة التي توفر له كل ما يحتاج ليعيش. لكن الإنسان لا يريد أن يعيش فحسب. يريد أن يعطي لحياته معنى. يريد أن يفهم مغزى الحياة، وعندما يغيب عنه المعنى فإنه يلهي نفسه التواقة بمعرفة طبيعة القوانين التي يسير عليها العالم ويعطي لها أسماء، فتظهر اللغات والعلوم. سنحاول الخروج مِن هذا المأزق؛ سنحاول أن نخرج لكن لن يزيد ذلك إلا توغلا في أدغال الأمازون الذي تشترك فيه تسع دول ويشكل مساحة ٤٠٪؜ من أمريكا اللاتينية. ربما ستكون مناسبة لكي أتعلم اللغة الصينية مقابل تعليم الصينيين بعض أبجديات الطب. ربما ستكون مناسبة لكي نقارن كل القوانين التي تعلمناها في المدارس والكليات والتي قرأناها في الكتب مع قوانين الطبيعة، سنكتشف بلا شك هذه القوانين، ربما تكون هي القوانين الموصلة إلى الحقيقة، حقيقة الحياة. ربما ستتجلى لنا الكثير من الحقائق الفلسفية وتعاد صياغة علاقتنا بالكون والدين كما حكى ذلك ابن طفيل في روايته الفلسفية “حي بن يقظان” التي تروي قصة إنسان نشأ في عزلة تامة في جزيرة لوحده؛ قصة ألهمت دانييل ديفو عندما كتب قصة روبنسون كروزوي وقصة ماوكلي وطارزان وغيرهما.

سنعيش كل ما يمكن أن يعاش بين البشر وتظهر خلافات وتحالفات ومصالح ومواقف بطولية وخيانات وصراعات، وسنأكل كل ما يمكن أن يأكل في الغابة، إلى أن يتسلل الشك في النجاة ونبدأ بفقدان ملكاتنا العقلية ويبدأ الإيذاء فيما بيننا ويصبح الإنسان عدوا لنفسه ولغيره كما هو الشأن في مدننا وحياتنا المعاصرة.

حينها… حينما نفقد الأمل بالخروج، سنلتقي فجأة بأشخاص آخرين “الكابوكلوص” في الجهة الفنزويلية من الأمازون … أو نلتقي بأناكوندا عملاقة تقضي علينا جميعا.

بينما كانت هذه القصة تنسج تدريجيا في مخيلتي، دفع “جوزي” الباب بقوة قاطعا حبل أفكاري : لقد تأخرنا، يجب أن نذهب الآن إذا أردنا أن نحضر شيئا من الأكل قبل أن يخيم الليل على الغابة.

أجبته :

حالا !

(يتبع)