إِنْ يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرَاً

مَبدأٌ نَظريٌّ محضٌ، تطبيقِي حدَّ النُّخاع، يُربِّي فِيكَ المُثابَرة علَى المُضيِّ قُدما، والرِّضى بالقَليل ليسَ حدَّ الحَراكِ باليَدينِ وَالعَمل بهِما، بل نبضَات قلبِك التِي لاَ تبِينُ للغَيرِ عِند الغَيرَة علَى دِينِك وَالعمَل على تغيِيره، فإِن لَم يَروا حَرارَة شُعلَته التِي تفُوق الشَّمس، ودِفء نبْضه التِي تُلِين الحديد، فإنَّه اللَّيِّن القَريب المُجيب الخَفيف علَى الأفْئِدة الرَّحيم فوقَ رحمَات الأمَّهات إِذا جُمِعت، ذِي الأيدِي اللَّطيفة والأقدَار العَظِيمة، يَرى ويقلِّب، يُشاهِد وَيشفع، يعرِف ويُغَير، يُنظِّم أقدارك وَيرفعُها مَنزِلة الصَّالِحين العَاملِين لِتلكَ الذَّرَّة الجَميلة التي زرَعْتَها في قلبك…

بين أَلِفِ “خيراً” وَيَاءِ “يؤتكم”، تَختَفي قَوانِين الفِيزيَاء وَتندَثِر مَفاهيمُ السُّرعَة الأرْضِيَّة لِتُصبِح سُرعةً ربَّانية بِحِكمة إِلهية بَالغة، تتفعَّل حِين تَستَوجِب شُروطُها إِشراقَها، فِي زَمَنها وَمكانِها المُحدَّدين بِعنايةٍ لِتَكتَمل الصُّورة وَتكُون في إِطَارها كمَا يجِب بِلا نقصٍ أو زِيادة، كالفَواكه المَوسِمية التِي لاَ تحتَمل فُصُولاً كَطقسِها المُعتدِل المُقدَّر لهاَ أن يَكون. وتلك حِكم الله مِن أَصغر ذرَّة فِي الوُجود إلى أكبرها…

مقالات مرتبطة

ومَا حدُّ القَناعة إِلا الإتيَان بالصَّبر وشدٍّ فِي الجَمر حتَّى يَأتِي الله بِأمره ويُفعِّله، فبعد كلِّ عسرٍ يسرٌ، وبَعد كلِّ صبرٍ جميلٍ من يُوسفِ قَلبِك وَحُزنِ يَعقُوبِ فُؤادِك، إِعادةُ الإِبصَار {فَارْتَدَّ بَصِيرًا}وَ الحَمد الكثِير و تَجدِيد العهدٍ {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ أَنِّي أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعلَمُونْ} فالصَّالحون لَم يتفَوَّقوا عَلينَا إِلا فِي الرِّضى والصَّبر وَالعَمل الفَوريِّ كَسُرعة استجابةِ الإلَه لَهُم {وَمَن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين [إذ] قال له ربه أسلم [قال] أسلمت لله رب العالمين}.

فأَنت، إذا وَضعت نفسكَ فِي قيدِ أو قفصِ الحياةِ الظَّاهرةِ المُنبَثِقةِ مِن عِلم الإنْسانِ الذِي يَحتمِل الخَطأَ ظنَّا مِن نَفسِك أنَّها حُرِّية لمْ يَسْبِقك لَها أحدٌ، فَقد أخطأَت تقديرَ ذاتِك التِّي تعلُو على المادياتِ والقوَالب المُحتَضرة، فرُوحك لاَ تترفَّع بِالجَسد إنَّما تَرتَفِع دُونه فهو زَائلٌ وهيَ حيَّة في الأُفق… فكلُّ شيءٍ له مِيزانٌ، ليسَ بِحجم العَمل وَلاَ قِيمَته فِي أرضِ الوَاقع، إنَّما فِي مِيزان العَدل نفسه الذي لا يُضيع مِثقال ذرَّة تُحيل بَينك وَبين مصِيرك الحَتمي…

فربُّنا الله أرحمُ الرَّاحمين، يشجِّعنا علَى القليلِ وَإن لَم يظهَر للناس، لكِنه يراه ويفتَخر به، وَما الدُّنيا أَمام فخرِ الرَّب؟ كَالأم التِي تُربِّي وتُكبِّر جِيلا عظيماً يظهر أمَام المَلإ يتعجَّب منه، وهي التِي صَنَعتها بِيديْها رَحمةً مِن ربه لاَ تٌظهِر إنجازَها بل تَكتَفي بتَتَبُّع أثرِه والفرحِ به في صمتٍ، وأينَ نحن من أمَّهَاتنا؟ وهل سمِعنا قطُّ عن أُمَّهات الصَّالحين، إلاَّ مَن كرَّمهن الله فِي قرآنه غيرَ غافلٍ عن دَورِهن الأساسي؟

مَن لَم ينسَ ذرَّة عَملك الصَّغيرة، مِن كفِّ أذًى كَان سَيقَع، إلى حسنِ ظنٍ فِي الآخر مهمَا ظَهَر عَيبه، إِلى نيَّة عَمل خيرٍ لَم يُيَسَّر له، لَن ينسَى جسدكَ المُنهَك مِن حُروبِ نَفسِك لِرضاه وَطلَب المَغفرة…