الأوعية النقلية
الأوعية النقلية من العلل المزمنة التي تنخر جسد العالم الثالث؛ علة النقل الحرفي لكل ما قيل ويقال في عالم الأفكار دون عملية تمحيصية أو أي تحريك للعقل نحو الغربلة والنظر الدقيق، وإنما العمل اقتصر على النقل من هنا إلى هناك، كما هو الحال في نقل البضائع وعالم السلع، ويتم هذا العمل النقلي عن طريق الأوعية النقلية كوسيلة فعالة، ليتحصل لنا بذلك ركام هائل من الأفكار المبعثرة الفوضوية التي لا تتطور ولا تترقى، متحجرة متكومة، سلعة تنقل من وإلى دون خلخلتها وتقليبها ونقدها، وهذه الأوعية النقلية ثلاثية الآفات، فهي التي تؤطر بنيتها المحدودة ولا تخرج عنها، فما هي هذه الآفات الثلاث؟
أولها: آفة التكديس؛ أو فعل التكديس، ويتجلى هذا الفعل في الرصد المستمر للأفكار وجمعها ومراكمتها في قبو الأفكار، دون خلق أي فاعلية لها، وفي هذا يقول مالك بن نبي في معرض حديثه عن توجيه الأفكار: “هناك شخصية أخرى تمثل نموذجا آخر من انعدام الفاعلية: فهي بصفة عامة رجل مخلص وهبته الطبيعة فكرا خصبا، لكن لديه ذوقا خالطه التّرف العقلي، فهو طروب لا يتخيل الفكرة منوالا تنسج عليه ضروب النّشاط الاجتماعي، بل هي لديه من التّرف يخلق المسرّة، وغرام بالأفكار أشبه بالغرام بجمع التّحف والأشياء الثمينة، فلو أنني وصفت هذا الفكر بصورة أستعيرها قلت: إنّه ليس مصنعا تتحول فيه الأفكار إلى أشياء، بل هو مخزن تتكدس فيه الأفكار بعضها فق بعض.”
فهي هذه آفة التكديس كما بينها بن نبي، تجعل المصاب بها مهووسا بتعقب الأفكار ورصدها، لا لتنميتها وإنضاجها لتصير ذات فعالية في الواقع، بل يترصد هذه الطيور الفكرية، ليقتادها بعد ذلك إلى قبو الأفكار خاصته ويحكم عليها بالموت البطيء في سجن الأفكار.
ومن آفة التكديس إلى آفة الاجترار الرتيبة، وتحت ظلال هذه الآفة يبدأ الفعل الاجتراري للأفكار المحاصرة في قبو التكديس، فتنقلب الموازين العقلية بالتالي، فعوض أن يكون الأصل في الأفكار هو الحركة والتطور والنمو والإنضاج، أصبح العكس هو الصحيح أي الشلل والجمود الفكري! ليكتسب هذا النمط الصلب طبيعة الأمر المألوف غير المحرج، فيعمّ العمل الاجتراري كأنه القاعدة التي يحفظ أمامها العمل الفكري المتحرر كشاذ يحفظ ولا يقاس عليه! مما يؤكد بالتالي وجود تشوه منهجي في كيفية التعامل مع بحر الأفكار المتلاطم الأمواج، وفي كيفية العمل على جعل هذه الأفكار ذات فعالية في المجتمع كنوع من السجال الفكري في سبيل إنضاج الأفكار وربطها بالواقع، مع البحث المستمر عن الإبداعات الفكرية المستجدة، لا لاجترارها مجددا بل للاستفادة والتوظيف اللازم لها في محلها، مع التسليم بمسلمة أن الأفكار تلمع وتخبو حسب الظروف والأوضاع، كم من أفكار خفت بريقها ثم في يوم من الأيام يلمع بريقها مجددا، ما يدل على أن الأفكار بذور منثورة في التراب متى توفر المناخ المناسب نمت واستوت، وعليه، فلا يمكن اجترارها سبهللا كيفما اتفق ودون الانتباه إلى الوضع والجو المناسبين، وكذلك حتى لا نبتلى أيضا بالشراهة في استعمال اللغة باجترارنا غير المتوازن، كأنما الغاية هي هذا الفعل الاجتراري بعينه.
وإلى الآفتين السابقتين تتزاحم آفة التقديس معهما لترخي بسدول ليلها الحالك على كلما قيل في الآفتين السالفتين، معلنة بذلك ألا شيئا يضاهيها في عملها المتقن في نحت الأصنام بأيد ناحتات مواهر! فالتقديس لفكرة معينة كيف ما كانت هو عبث بوجه عالم الأفكار ومتراس موضوع في طريق علمية النقد الصّحية، وإذا منع النقد والأخذ والرد في الفكرة تجمد عالم الأفكار وتصلب وصار عالما متكلسا يمكن وضعه في المتحف كإرث إنساني! إرسال العقل في إجازة مفتوحة.
وفعل التقديس هذا طقس وثني جاهلي أشبه بمن يعكف على مجموعة نُصب منصوبة هنا وهناك في معبده، فيطوف عليها لينال التوفيق والسداد من بركتها، فهذا هو حال عباد الأفكار ومقدسيها، أو أن حال الساقطين في آفة التقديس تجعل عقولهم محتلة من الأسبق إليه كما يقول ابراهيم البليهي: “فالعقل يحتله الأسبق إليه ومعلوم أن هذا الأسبق هو في الغالب ليس معرفة ممحصة، وإنما هو خليط متراكم من الأوهام المستحكمة والتخمينات الساذجة.”
فالمحتل عند المقدسين للأفكار هو مجموع الأفكار المجموعة من هنا وهناك كتحف نادرة، فتستحوذ على عقل المقدس وتسيطر عليه وتشرع في بناء قوقعة حول هذه الأفكار حتى تحمى من عوادي الزمن! في أفق إقامة طقوس أساس التقديس! والحال هذه، لا يمكن للتفكير الإنساني أن يتفتق عنه جديد ولا إبداع، فمن نحت صنما فليعبده وكفى الله المؤمنين القتال.
لكن، عكس ذلك، يعلمنا التاريخ أن عالم الأفكار هو قاعدة كل طموح نهضوي، والأفكار هنا بمعنى المتحررة من قيود الجبر والبعيدة عن كتلة التقديس، التي يقف عندها العقل لاستيعابها ومحاولة إنضاجها وجعلها ذات فاعلية في الواقع في ديمومة فكرية متواصلة، فلا يمكن الحديث عن نهضة أو خطوات إلى الأمام دون الاجتهاد في تقويض ثقافة الوعي النقلية والتخلص من الآفات الثلاث المهيمن عليها، وذلك لا يتأتى إلا بتقوية ودعم قواعد النقد البناء ذي المقصد والهدف المحدد الجاد، كتقويم الأفكار والإسهام في تشييد شرح المعرفة الإنسانية، ومحاولة تبيئة الأفكار في الواقع المعيش لخلق الفاعلية المطلوبة وسد فجوة أزمة التنزيل العملي لكل ما هو نظري، وهذا بالطبع بعيدا عن النقد الهدّام الذي لا يقوم فكرة ولا يبقي أخلاقا.
النقد ظاهرة صحية في كل عملية فكرية أنتجت فكرة أو أفكارا، وهو الضامن في تعبيد طريق ضد حصون الأوعية النقلية، ما لم يخرج النقد من أدبياته الأخلاقية إلى ضد ذلك، ووفق قانون القولة المأثورة للشافعي يمكن السير “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.
-مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ص 68، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر دمشق 2000م.
-إابراهيم البليهي، حصون التخلف، ص 340، منشورات الجمل بيروت، 2010م.