الزواج مرة أخرى… من نفس الزوجة…
الملل والسآمة والتشوف للجديد وطلب المزيد خِلالٌ للإنسان استقرت في طبعه منذ كان وهي لا تختلف بين إنسان وآخر من حيث الوجود ولكن فقط من حيث شدة تأثيرها على سلوكه ومن حيث تجاوبه معها دفعا وتحجيما أو خضوعا وتسليما… فالإنسان يتطلع دوما للتغيير ويحب كما الأطفال أن يعيش دائما قلبُه لوعة المغامرة ولذة تلك الخفقة ومتعة ذلك الخاطر الأول عند اقتحام الجديد وتجريبه… والمبذول قَدَرُه أن يكون مملولا والظفر تخبو معه نار الطلب والتعلق وتستكين، وأكثر مليح الشعر من الغزل قيل في غير الأزواج إلا فيما ندر كشعر المعتمد بن عباد في زوجته الرُّميْكية…
والناس افترقوا بين أولئك الذين كلما تسلل إلى قلبهم الملل والضجر من شيء إلا تلخص عندهم الحل وتناهى إلى تجريب الجديد وتغيير القديم، وبين آخرين يستطيعون بإبداعهم وعقلهم أن يُخرجوا دوما الجديدَ من صلب القديم وأن يغيروا من أفكارهم وتصوراهم للقديم حتى يبدو جديدا… إنهم يشبهون عمال المناجم الذين يُخرجون الأحجار من جوف الأرض ليستخرجوا منها معدنا معينا ولكنهم لا يرمون مخلفات الأحجار المتبقية بل يحتفظون بها لأن معادن أخرى مازالت في صلبها، يمكن أن تُستخرج متى سنحت الظروف لذلك…
هو ليس يسيرا أبدا أن تقتلع الرتابة من القديم وتصبغ عليه ألق الجديد، إنه تعبير عن سمو في الإبداع والفكر وكذا ترجمةٌ لنضج الإنسان الذي يعرف ما هو التجاوز… فليس كل شيء تلح النفس في طلبه يجب أن يلبى ويستجاب وليس كل تصور عن شيء هو جامد ثابت نهائي يجب أن يظل جاثما على نظرتنا للأمور والشخوص إلى أن تفيض الأرواح، بل لابد أن يتطور ويتغير ويتأقلم ويعاد التفكير فيه حتى تُرى الجوانب الخفية ويسلط الضوء على النقاط الإيجابية المهمة التي جرى تهميشها في تصورنا الأول عن شيء ما أو شخص ما… فبالتطرق لمثال الزواج، هناك كثير من صفات الزوج (ة) وخصاله الحميدة التي لا ننتبه لها ونظن أن وجودها عادي وتحصيل حاصل لأننا لم نجرب غيابها بينما هي مهمة وجوهرية ولو أُعْطِيَت حقها من الانتباه والاعتناء لتمت رؤية الأمور والمشاكل بنظرة أخرى ومن زاوية مختلفة… ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام ” لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر“…
إن كثيرا من الناس قد يعيشون حياة أغنى وأسعد وأكثر إثارة مع زوجة واحدة بخلاف من تحدثهم دائما أنفسهم بأن الإثارة توجد خارج أسوار الموجود والمملوك… فالإنسان كائن مركب ومعقد جدا وغالبا ما تكون استجابته متأثرة بنوع التعامل الذي أثار تلك الاستجابة، فكثير من الأزواج لا يغير قيد أنملة في طريقة تعامله مع الزوجة وطريقة تصوره لذاتها وللزواج ككل ثم ينتظر أن تغير هي ردات فعلها وسلوكها (والعكس أيضا)، فيهرع ليتمثل السعادة خارج نطاق العلاقة مع الشريك الحالي، مع شريك آخر أو ربما بلا شريك…
إن الزواج مرة أخرى من نفس الزوجة لا يحتاج تكلفة مادية ولا إشهارا ولا حضور ولي ولا شهودا، إنما يتطلب روح المبادرة وإرادةً وإبداعا وتغييرا لبعض الأفكار والتصورات ولزاوية النظر… والزوج الناضج هو الذي يحاول أن يكتشف كل مرة جديدا في شريك الحياة كيما تصبح لحظة الاكتشاف تلك وكأنها لحظة من ليلة الدخلة أو من جلسة التعارف الأولى… وقد يتجلى التجديد أحيانا في أحداث كبرى كاستقبال مولود في الأسرة أو تغيير السكن أو عمل المرأة أو توقفها عن العمل مثلا، وأحيانا أخرى يحتاج فقط أن تناقش مع زوجتك مواضيع لم تناقشها معها قط أو تُغيّرا ترتيب بعض الأثاث في غرفة النوم مثلا أو تنظما مجلسا أسبوعيا للحديث والدردشة بعيدا عن هموم الحياة أو تصليا معا ركعتين قياما كل ليلة أو تنظما بعض المسابقات في القراءة أو الحفظ أو الترفيه أو الحمية أو تتكلما لغة أخرى في أحد أيام الأسبوع، واللبيب لاشك يعرف كيف يبدع ما تُشحن به بطارية المودة وتضاء به أنوار البيت… فكلما فعل الزوجان شيئا جديدا مشتركا إلا واكتشف كل منهما أمريكا ورأس الرجاء الصالح في شخصية الآخر..
ولا غرو أن هذا بطبيعة الحال ينطبق على من كان الوفاق والمودة والانسجام الفكري سمةً لزواجهم الأول، أما من لم يتدفق في نهر ارتباطها ماء المودة يوما فمن العبث الحديث عن التجديد وكيف الحديث عن الزواج الثاني والثالث والأول لم ير النور يوما وإنما كان عقدا باردا لم تتوفر له في أي وقت أيٌّ من شروط الحياة والاستمرار…