الإحسان هو الإنسان في أرقى أشكاله وأسمى معانيه. الإحسان فعل يتجلى في كل عمل تتحقق فيه قيم الإتقان والرحمة والعطاء والجمال. الإحسان فطرة إنسانية، ولكنها فطرة تحتاج إلى تمحيص وشحذ وتشذيب وتنقيح كي تتألق وتظهر بادية للعيان.
فالمحيط الاجتماعي الذي يساهم في نضج الوعي يساهم أيضا في تغييب عناصر الفطرة، أو تشكيلها ضمن قوالب من العلاقات والرؤى؛ التي تضعف تفاعلها مع متغيرات الحياة، وتنحط بها إلى حضيض الوجود الحيواني. وهذا ما يستدعي جهدا إضافيا لسماع صوت الفطرة، وجهدا أكبر للعمل على إعادة التفاعل مع المحيط الاجتماعي وفق متطلباتها.
الإحسان يتولد من الإحساس بالحسن والجمال بكل أنواعه وأبعاده؛ جمال الشكل وجمال المضمون، جمال المنطق وجمال الفعل، جمال المبدأ وجمال الالتزام. حس الجمال كحس العدل فطرة بشرية، وغريزة إنسانية تتفاعل مع المحيط، وتستجيب إلى الأحداث والأشياء. وجود حس جمالي فطري لدى الإنسان لا يعني أن هذا الحس غير قابل للتطوير والتحسين؛ بل يمكن أن يرتقي من خلال العمل التراكمي. هذا التطور يلاحظ بصورة أساسية في دائرة الفنون، ويتجلى في مجالات الإبداع من تشكيل وتأليف وتلحين وتصميم. حس الجمال قابل للتطوير، لكن تطوره يرتبط بصورة أساسية بالأدوات المستخدمة والمهارات المكتسبة، وبدرجة أعلى في الملكات الكامنة.
ولكن الجمال بوصفه حالة مرتبطة بالخبرة الإنسانية يبقى أمرا عصيا على التحديد والقولبة ضمن أطر نظرية، ولذلك فهو عصي على التعريف، حاله كحال معنى (الوجود) العصي على التعريف. الجمال حالة راقية ومدهشة ومنعشة ومتجددة، وهو على مستوى الفعل والخلق والتكوين حالة إبداعية خالصة، وتجل رائع لخصائص الروح.
التعبير العملي عن الجمال هو الدهشة. الجميل مدهش نظرا للأثر المتجدد والغريب الذي يتركه في النفس. فهو يظهر على مستوى الرؤية في مزيج من الألوان والأشكال، تولد حالة من الدهشة والانفعال الإيجابي المريح في نفس المشاهد.
يمكن أن يكون الجمال؛ جمال معرفة أو جمال منطق أو جمال شكل أو جمال فعل أو جمال إنسان…لكن تحديدنا للجميل يختلف بين الآخر والآخر، بحسب زاوية رؤيته وذوقه الجمالي.
لا أحد ينكر أن الجمال وخَلق الجمال وتعليم الجمال، وتقويم الجمال وتطويره وتوجيهه، لا يكون إلا بالإحسان. أعلى مراتب الإحسان -الذي يتولد من الإحساس بالحسن والجمال- هو تعليم الآخر الجمال، تعليمه الذوق الراقي والنظر الجمالي والإبداع الإحساني.
والتعليم لا يمكن أن يكون إلا من ذات أخرى، من ذات تفوقك في الإحسان، تفوقك في الحس الجمالي، ذات تستعلي عليك بمعارفها وقدراتها، ذات تحققت فيها قيم الإتقان والرحمة والعطاء والجمال، هذه الذات العليا التي أعطت للحياة الجمال هي الله الرب الأول والمعلم الأول لعبده الإنسان، هذه الذات تنعم على ذوات بشرية أخرى -برحمتها- بالحكمة والبصيرة العالمة، أو بالوحي الإلهي. هذه الذات هي التي تعلمنا المعرفة الصحيحة والفطرة القويمة والقدوة الرفيعة.
المعلم إذن هو أساس حضارة حضارية قوية أخلاقية قائمة على الإحسان. وبازدراء دور المعلم وغض الطرف عن إحسانه، يهبط الإنسان إلى مرتبة الحيوانية، ويدخل إلى ظلمات الجاهلية، وتتدنى قيمته بحسب ازدرائه للمعلم والتكبر عليه.
المعلم أساس كل نهضة تقوم على الإحسان والجمال، فإن غاب التقدير الذي يسمح بالإنصات للمعلم، غابت النهضة واندثرت القيم التي بفضله نقلت إلينا نقية سالمة من الأمراض.
أخيرا، لا بد لمعلم لنصل إلى قمة الإحسان؛ أي قمة الإحساس بالحسن والجمال، بدونه نفقد الإحساس بالجمال. شكرا لكل معلم محسن يشد بيد ركب الجاهل ليصل به لمقام الإحسان. شكرا لمن أنطقنا حرفا وعلمنا معنى، وفتح بصيرتنا على حقيقة. شكرا لكم أساتذتي وسادتي شرفاء الأمة وقائدي الهمم.