الياباني : ساموراي بربطة عنق
كثيرة هي الأشياء التي ستثير انتباهك حين تأتي زائرا إلى اليابان، لعل أكثرها ذلك التنظيم المُحكم لكل شيء.. عندما تستيقظ صباحا، وتقرر الذهاب إلى المناطق السياحية التي ينبغي زيارتها في طوكيو أو أوطاكا أو غيرهما من المدن الكبرى، أول ما ستقع عليه عينُك هو تلك الانسيابية وغياب الازدحام؛ فمدينة طوكيو العاصمة، رغم كونها من أكثف المدن من حيث الساكنة على مستوى العالم، إلا أنك لن تر لذلك أيَّ أثر سلبي على التنظيم وسير الحياة العادية، فكل شيء يسير بشكل متناسق ومنساب.
في الواقع، إن نجاحات اليابان لا ترجع إلى مزيد ذكاء لدى هذا الشعب، وإنما تعود أساسا إلى نجاح اليابان في تنزيل فكرة “تقسيم العمل” بشكل صارم. وهي الفكرة التي نظَّر لها مفكرون كبار من أمثال آدم سميث ودوركهايم، والتي تنص على ضرورة تقسيم العمل وتجزيئه. هذا التقسيم الذي يؤدي إلى تخصُّص كل فرد في مهام محددة بشكل دقيق، يسهل إتقانها وأداؤها بأعلى قدر من الدقة والإنتاجية؛ فالشرطي يقوم بعمل محدد، ومهندس النظافة يقوم بعمل محدد، والأستاذ يقوم بعمل محدد .. وهلم جرا.
هذا التدقيق في تحديد المهام ينتج عنه في آخر المطاف نظام مُحكم، فاليابان أشبه ما تكون بتلك الساعة الكبيرة التي تتكون من عدة أجزاء وآلات، قد تبدو ظاهريا بأنها تعمل بمعزل عن الآلات الأخرى، إلا أنها، في حقيقة الأمر، تتظافر وتتكامل بشكل متناهي التناسق والدقة، وهكذا المجتمع الياباني؛ فانضباط كل شخص وتفانيه في أداء مهمته يفرز لنا في النهاية هذا التنظيم المحكم غاية الإحكام.
فالأمر، إذن، لا يعود إلى زيادة في نسبة الذكاء، بل بالعكس من ذلك، فالزائر لهذا البلد، يلاحظ أن أفراد هذا الشعب يبدو عليهم نوع من السذاجة، فحين تتحدث إلى الشرطي يجيبك ببساطة كبيرة، تصل إلى حد السذاجة، وكذا الأمر بالنسبة للبائع والسائق وغيرهم. أي أنك حين تخرج عن مجال وظيفتهم ربما يُهيأ إليك أنهم لا يفهمون في الأمور الأخرى.
وقد انتبه آدم سميث إلى هذا الأثر السلبي لفكرة تقسيم العمل، وهو أن تكليف المرء بمهمة روتينية يكررها كل يوم يؤدي إلى انتشار البلادة والبلاهة والسذاجة لدى الأفراد، فدعا، لتجاوز هذا المشكل، إلى ضرورة نشر الثقافة بين أواسط العمال، من خلال ما سماه بالتثقيف العام أو بالجامعات الشعبية.
غير أن هذا التقسيم الصارم للوظائف، والذي يؤدي إلى ازدياد نسبة الإتقان والاحترافية في الأداء، ليس هو الوحيد الذي يفسر هذا التفوق الياباني، بل يتم تقويته بـ “عوامل معنوية” أخرى، ترجع إلى الفلسفات والديانات الأسيوية الشرقية، كالبوذية التي دخلت إلى اليابان من الهند، والكونفشيوسية التي وردت من الصين، وهما معا يقومان على التركيز والتأمل. ويتم تربية الأبناء والناشئة عليهما في اليابان؛ ذلك أن النظام التعليمي الياباني، في السنوات الأربع الأولى، تخصص كلها للتربية، ثم بعد ذلك يبدؤون في تعلم اللغات وأمور أخرى.
وقد أسهمت سياسة العزلة التي اتبعتها اليابان منذ القرن السادس عشر إلى منتصف القرن التاسع عشر في ترسيخ تلك التعاليم البوذية والكونفشيوسية؛ بحيث أصبح للفرد الياباني الحصانة الكافية والمناعة الثقافية اللازمة لحمايته من أي تأثير خارجي. ثم حصل ما حصل بعد دخول اليابان في الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومن تم دخلت الرأسمالية إلى اليابان – وقد بينتُ في مقالات سابقة كيف أن اليابان استطاعت التوفيق بين قيم الرأسمالية والثقافة والتقاليد الموروثة- .
وحين أتأمل التجربة اليابانية وأحاول المقارنة بينها وبين واقعنا في العالم العربي –حيث الانحطاط الفكري والاقتصادي والسياسي وفقدان الهوية – يترسخ عندي اقتناع مفاده أن هذه التجربة جديرة بالاقتداء وباستفادة الدروس منها، حضاريا واقتصاديا، ومن ثم بناء نهوض حضاري جديد لدولنا. فليس من الضروري دائما أن نتوجه إلى الغرب للتعلم واستلهام التجارب، فهناك دول أخرى غير الغرب مثل اليابان وتركيا وماليزيا، يمكننا الاقتباس منها والاستفادة من تجاربها بأكبر قدر ممكن، مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات الطبيعية والجغرافية والديمغرافية لدولنا، فكما أن تركيا استلهمت الإرث العثماني في بناء نهضتها، واليابان استلهمت تعاليم إرث ثقافي قديم يعود إلى ألفي سنة، في تأسيس إمبراطوريتها الحديثة، بإمكاننا أن نعود إلى ديننا وتراثنا لاستلهام القيم التي يمكن أن تعيد الروح إلى أجسادنا, للقيام بمسؤولية عمارة الأرض والاستخلاف فيها/ الحضارة.
والدين الإسلامي بالدرجة الأولى منظومة قيم، يجب استثمارها في البناء الحضاري المنشود. ولا نَعدم في هذه القيم الغنية ما يحث على العمل والانضباط والإخلاص والإحسان. فالنصوص في هذا الباب أكثر من أن تحصى، لعل من أشهرها حديث: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”، وحديث: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” ، وحديث: “كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت”. وغيرها من النصوص الكثيرة، والتي لو استرسلتُ في سردها لخرج هذا المقال عن القصد منه.
ليس الخلل، إذن، في قلة المفاهيم والقيم التي تحث عن الإتقان والإحسان في العمل، ولكن الخلل يكمن في ربط الناس بهذه القيم والمفاهيم وفي استثمارها وتنزيلها والتخلق بها. ولذلك كان مالك بن نبي محقا في كتابه شروط النهضة حين قال: “إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، وإنما منطق العمل والحركة”. .
نحتاج إلى أن تصبح هذه الأفكار وهذه القيم سلوكا يوميا، يتشرّبها الأفراد في لاوعيهم بتلقائية؛ والإسلام لا يُختزل أبدا في الصلاة والصوم والحج فقط، وإنما هو منهج حياة، بما في ذلك الارتقاء بالإنسان ثقافيا وحضاريا، فضلا عن الارتقاء به روحيا. والدين بهذا المعنى يصير قوة مُسهمة في تحسين حياة الإنسان-مادةً وروحاً. وهذا شيء يجب أن يميزنا عن الغرب، والذي يعيش حالة ازدهار حضاري كبير، على المستوى المادي، ولكن يعاني على المستوى الروحي.
ولعل هذا هو ما يميز اليابان أيضا عن الغرب؛ لأننا نجد في اليابان هذا الاعتماد على الجوانب المعنوية/ اللامادية في البناء الاقتصادي والحضاري؛ ولأجل هذا تجد الياباني مستعدا للتضحية بنفسه من أجل شركته، معتقدا أنه يقوم بعمل نبيل، كما يعتبر الشركة أسرةً له، وربما يعتبر مدير الشركة أباً له؛ فالمفاهيم المعنوية هي التي تحرك المجتمع الياباني، وإن كانت المظاهر توحي بخلاف ذلك.
لا أنكر أن هذه المفاهيم صارت تخضع لتعديلات ملحوظة، في ظل هيمنة القيم الرأسمالية اليوم في العالم، وبدأ الشباب الياباني يفتقد جزءا من هويته. ولكن ذلك لا ينفي حالة التدافع من جهة أخرى؛ فالدولة تشجع على بناء المعابد، وترسيخ هذه القيم، كما أن الإمبراطورية، وإن كانت رمزية، إلا أنها تلعب دورا مهما في ذلك.
وختاما فإن الذي أخلص إليه من هذه المحاولة في تأمل التجربة اليابانية أن هذه التجربة استطاعت أن تحقق نجاحات باهرة، وأن تخط لنفسها صفحات مشرقة في التاريخ، وهي تجربة جديرة بالتأمل والاعتبار، ولمَ لا النسجُ على منوالها، واقتفاء أثرها في عالمنا العربي، لعلنا نتجاوز بعضاً مما يواجهنا من تحديات جمة.