انتفاضة داخلية
في كثير من الأحيان تعترينا الرغبة في التخلي عن كل شيء، ونُرغم على الخضوع القصري للأمر الواقع والاستسلام، كأن زمام الأمور تخرج عن السيطرة، وكأن قارب حياتنا أوشك على الغرق، أمواج بحر الحياة العالية ها هي ذا تقذفنا ذات اليمين وذات الشمال ونحن في غفلة منا، لا نحن بأحياء ولا بأموات، نحاول المراوغة والوصول إلى بر الأمان، لكننا في الحقيقة نستنزف طاقاتنا في أشياء بعيدة كل البعد عن وجهتنا ومبتغانا، بفعلنا لأشياء كل ما يمكن القول عنها هو أنها سذاجة، سذاجة تجعلنا في الأخير نرتخي مغمضين أعيننا وتاركين للموج وضع القيادة، إلى حين وصول قاربنا المهشم – الذي لم تبقَ من معالمه سوى بعض اللويحات- إلى ميناء الوحدة والعزلة، هذا المرفأ الذي احتضن ولا يزال يحتضن أعدادا كبيرة من الناس أو بالأحرى يحتضن أعدادا كبيرة من الموتى الذين تخلت عنهم إرادتهم وأرواحهم قبل أن تتخلى عنهم أجسادهم.
أشخاص رفعوا رايات استسلامهم ظنا منهم أن الحرب ستنتهي، وأن الحياة ستمنحهم فسحة من الوقت وتتركهم ليلملموا جراحهم، للأسف تضل توقعاتهم مجرد ظنون واهية، لأن الحياة بطبعها عبارة عن صحراء قاحلة، تحطم خلاياك بقلة مائها وتصيبك بالغثيان كلما ازداد حر شمسها، وما إن يغيب ضوؤها وترغب بالاستراحة حتى تفاجئك من حيث لا تدري لسعات عقاربها، ثعابينها وسحاليها، لتشرق بعدها شمس الجحيم من جديد وتعيد الكرَّة مرة أخرى، في أحسن الحالات ستعيد نفس المعاناة لكن مع تخفيف من عنصر التشويق والمفاجأة، وذلك بعدم ظهور معيقات خارجية جديدة على الواجهة.
أهذه هي الحياة التي لطالما رغبنا بها! أمن المحتمل أن تكون صرختنا الأولى -صرخة الطفل عند الولادة- كانت صرخة استنجاد واستغاثة أو حرقة دفينة في أنفسنا عوض أن تكون صرخة فرح للقاء من أنجبتنا إلى هذا العالم بعد انتظار ما يناهز 9 أشهر أو أقل.
لا أظن ذلك، لأننا لم نخلق عبثا، بل خلقنا لغاية كل واحد منا مدركها شريطة أن يؤمن بنفسه وقدراته وأن يحب نفسه كما خلق بدون أقنعة زائفة تُغَيَّر عند كل موقف أو تُعَدَّل عند كل مرة يعرف فيها شخصا جديدا، بل لا بد للشخص أن يبحث عن مواطن ضعفه ويحاول معالجتها وفي الوقت نفسه يبحث عن مواطن قوته ويقوم بتعزيزها، صحيح أن الحياة ليست بالسهلة أو الهينة لكنها أيضا ليست بهذا الكم الهائل من الدراما، نعم، نقع في أزمات لا تعد ولا تحصى تعكر صفو حياتنا وتجعلنا حبيسي أفكارنا المتشائمة الملأى بالضوضاء، سواء كانت بسبب علاقاتنا الفاشلة أو شخصياتنا المهتزة أو أنها عبارة عن قوة خارجية ليس لنا أي سلطة عليها.
مهما يكن لن نظل هكذا طويلا، لأن الصعاب لم تأتِ إلا لترحل وإنه لمن بعد ظلمة الليل حالكة السواد يأتي نور الصباح الساطع، أهم شيء هو أن يواصل الإنسان المضي قدما ومهما أطاحت به الحياة في مستنقعات لا مخرج منها لا بد له من الصمود والنهوض من جديد، إضافة إلى ذلك أن يمنح لكل حدث وقته، إن كانت لحظات الأسى تمر عليه طوالا فعلى الأقل وجب عليه أن يختلس من دقائق الفرح ابتسامة تروي ظمأه في عز يأسه، وأن ينظر للحياة بعيني طفل صغير محب للاستكشاف ويقابلها كل يوم بابتسامة مشرقة تثلج الصدر، ولا يتشاءم أو ينظر للدنيا على أنها دوامة مشاكل لأنه بذلك لن يجد منها سوى ما يتوقعه.
إنه قانون الجذب يا سادة، غالبا كل ما يفكر فيه الإنسان ويتوقعه ويؤمن بحدوثه هو ما يحدث له بالفعل، لذلك من المحبذ أن يتصرف على سجيته ويظهر للعالم مدى روعته، لأن الحياة فانية وستعاش مرة واحدة فقط، لذلك وجب استغلال كل ثانية فيها فيما ينفع النفس والمجتمع وأن يترك الماضي للماضي بكل مساوئه ومآسيه، وآخر ما يمكن أن أقوله هو: “لا تغلقوا كتاب حياتكم واجعلوه قابلا للتعديل في أي وقت، لأنه سيأتي يوم لا بد فيه من إعادة قراءة هذا الكتاب لتتذكروا إبداعاتكم وبصمتكم الخالدة، و أتمنى وقتها أن لا تجدوا به ثغورا يكون قد فات الأوان على إصلاحها.”