وإني لرأيت من العوائق التي نصَّبها بعض الرجال لأنفُسِهم ممن استطاع الباءة منهم أن يتزوَّجًوا، وكذلك النفر من النسوة اللواتي لا زِلن يختلِفن عليهن الخُطاب في خدورهن فيَقبِضن عليهم يد الرِّضى، هي ذريعة أنهم لم يجدوا بعدُ الزوج الذي يفهم الواحِد منهم الآخر.
وكأن لسان حال الفردِ منهم أثناء بحثه ذاك، ينشدُ النوعَ من الإنسِ الذي خُلِقَ مجبولا على ملاءمة الشاذِّ من طِباعِه، والذي عدَّله الله له من غرائزه ما يُواتي الغريبَ من شِيمِه، كما ينبش الشاري بين سِلعِ الإسكافي أي نعلٍ يلائم مقياسِ حذائه، وبين أثوابِ الخياط أي قميصٍ يواتي مسافة بين أكتافِه.
وإن وجَّهت سؤالا للباحِث من هؤلاء: أهل سبقك سالِكٌ سلك هذا المسلك قبلك، فظفِر منه بما تسعى أنت أن تظفره به منه؟ ألا تكون في إقدامك هذا كمن يلفظ أنفاسه لحاقا بوهم السرابِ في بساط الصحراء؟
فإنه يحمل سبابته مشيرا بها إلى خِيَمٍ قد أنعم الله على أصحابِها بعُمرانِ الدار، واستأنس خواطر أهلِها ببعض، ورفاء الذرية، قائلا: دونك فلانٌ وفُلان… فإنهم لم يُكمل القمر على رغدهم رحلات كسوفه دوراتٍ عداد، إلا لأن الزوج منهم ظفر بالزوجِ الذي يفهمه!
وإن المستبصِر المتأمِّل المُحنك، لا يخفى عليه أن رباط شخصين، أكانا ذكرين أو أنثيين، زوجانِ أو خليلين، لم تنجع في فكِّه عثرات الغوائل، ولا في قصِّه مَطَبَّات المَتربة، ولم تُفلِح في قضقضة صرْحِه زلازل النكبات، فإن فضل ذلك لم يكن فيه لحُسن التفاهُم وتوافُقِه لا يدٌّ ولا أصبع، بل هذه ومثلهُن أول ما يُنصَهر عن صاحبه في أو خلبة من خلباتِ الدهر، كانصهار الجليد عن جبله أمام أول طلة من طلات الشمس، بل الفضل كله في أن واحِدا منهم كان أكثر صبرا من الآخَر، أو أحدهم أقدرُ على الاكتساء بردائه السامي حينما يُنزَع عن الآخر.
فإني لا أدعو الباحث منهم أن يبحث عن الزوج الصابر، فأناَّ له أن يجده من الاستكشاف الخفيف والتصفُّح العابر! لأن الصبر في النفوس بمنزلة الجواهر في قاع المحيطات، لا يُهتدى إليها إلا أن تغوص في ظلماتها وتنبش عن تربتها وتزعج ساكنيها، بل أدعوه أولا قبل أن ينفذ بالأسباب أن يتزوج، أن يحاوِل فهم الإنسان.
أن يفهم الإنسان، ليجده ليس بأبعدِ طبع من طبائع المناخ، فيُعَوِّد نفسه ويُمرِّنها على تحمل تقلباتِه التي لا تُرسل إنذارا، ولا تُعذِرُ بإعذار، فالذي يتحمل الحر بزفراته، والبرد بتنهداته، والشتاء في شُحِّه، والخريف في إسفافه هو الذي سيتحمل الإنسان في غضبه وسخطه، وفي قبضه وبسطه، وذلك مدار كل خيرٍ بين اثنين، أكانا قد نشآ تحت سقوف الجامعات، أو تحت مصابيح السماوات، أو أن واحدا منهم نشأ في الأولى، وترعرع الآخر منهم في الثانية.
الذي قرر في قرارة نفسه أن يسكن إلى إنسان ثم عزَم، فعليه أن يتعهدها أولا في قرارتها أن يتحمَّله بطبائعه التي لا ترسل إنذار، ولا تُعذِرُ بإعذار، فالزوج لا يُبحث عنه بالمقاييس، كما يُبحث عن العنوان بين الكراريس.
وكم من باحث منهم أثناء بحثه، اكتفى بالنتائج التي يخلص إليها نهاية كل بحث، فغني بها عن الغاية التي كان يبحث من أجلها، حتى تسرب منه العمر بفضائله تسريب الخيط من جرارته…