بين الوعي والترفيه…

4٬179

كان الإنسان ولا يزال في خِلقَته وطبيعتِه قالباً ولوحةً دقيقةً متناسقةً، يتمازج فيها القلب والعقل، والمادة والروح، والحِس والوجدان، ولا كمال لأحدها بدون الآخر، لهذا كان اكتمال الإنسان في الجمع بين هذه المتقابلات، دون إجحافٍ بإحداها عن الأخرى.
وإنما ظلت المعادلة الصعبة على الدوام، وتفاوت بني الإنسان رُقيّاً وانتكاساً جليَّةً في حفظ هذه التوازنات الدقيقة، كما تُحفَظُ الفقاعة بين خطَّيْ “ميزان الماء”.

ولا يخفى أن الترفيه ـ في نسقه الإيجابي ـ من أهم الأدوات التي يُستعان بها على تحقيق هذا التوازن والتكامل في الطبيعة الإنسانية، بشكلٍ مفيد ونافع.
إذا ما نظرنا وراءنا في أغوار التاريخ البشري الضارب في القدم، الممتدِّ بظلاله على الآماد السحيقة لوجود الإنسان، فإن الترفيه ظل دائماً قريناً بهذا الوجود، على اختلاف الأجناس والألوان والأديان…
وكانت وسائله في ذلك ذات اختلاف كبير وتباين في الشكل دون المغزى، نظراً إلى مستوى تمدُّن الحضارة أو بداوتها؛ من القبائل البدوية في صقيع الأسكيمو، وأدغال آسيا، وقبائل أفريقيا وجنوب الصحراء وجزيرة العرب، إلى الحضارات اليونانية والفرعونية والفارسية، امتداداً إلى عصرنا الحالي.
إلا أنها في كل ذلك رهينةٌ بأصحابها، تعكس مبادئهم وأخلاقهم وقيمهم، من أقصى الإفراط غلى أقصى التفريط.

تذكر كتب التاريخ والآثار أن بعض الحضارات كالفرس والرومان كانت تسجن الوحوش الضارية مع العبيد والمستضعفين في أقفاص مغلقة، لتشاهد الصراع على البقاء حتى الموت دون شفقة أو رحمة، كوسيلة للترفيه والضحك.
بينما كانت السباقات والرياضات والمسرح والموسيقى أقل هذه الأنواع ضرراً وأدعى للغاية المقصودة من ورائها.
يقول بعض الظرفاء: إن مشاكل الحياة وصعابها مثلُ علبة المناديلِ الورقية؛ كلما أزلت واحدة تجر وراءها أخرى.
لهذا كان من أهم مقومات السعادة الكاملة في الحياة، كامناً في اليقين بأن لا وجود لسعادة كاملة فيها، وقديماً قالت العرب: “اليأسُ أحد الراحتين”
فإذا يئست من شيء استغنيت عنه، وإذا استغنيت عنه انقطع تعلقك به؛ وإنما أساس البؤس في الحياة تعلق النفس بما لا سبيل إلى بلوغه في الحال، أو تحسر على فائت مضى زمانه.

وإن قُدّر لإنسانٍ ما أن يخلو من كل همٍّ ونصَب، ومن كل كد وتعبٍ، في نعماء وافرة، ورفاهية غامرة، فلا أقل من أن ينغصها عليه مخافة الزوال أو الفناء، هكذا يستهل عمر الخيام رباعياته وهو في بحبوحة النعمة، وغضارة العيش وزهرة الشباب:
سَمِعْتُ صَوْتاً هَاتِفاً بالسَّحَرْ
نَادَى من الْحَانٍ غُفَاةَ البَشَرْ
هُبُّوا املَاؤا كَأْسَ الطِّلَا قَبْلَ أَنْ
تُفْعِمَ كَأْسُ الْعُمْرِ كَفَّ الْقَدَرْ
ومن ثَمّ كان عنصر التناسي ـ أي إظهار النسيان ـ مهماً في الترفيه وعيش حياة رغدة هنيئة، ولا يخفى أن حياة كل فرد تكتنفها دوائرُ من الصعاب وبواعثُ على الحزَن والهَمّ في كل حين؛ من همٍّ شخصيٍّ، إلى همٍّ عائلي، إلى همٍّ مالي، إلى همٍّ وطني إلى همٍّ عالمي…
واتساع دوائر الهمِّ في الغالب من علامات الوعي التام، وحصافة العقل واكتمال الوجدان. وأخسُّ الناس همةً، وأرذلُهم سريرةً، من ضاقت به هذه الدوائر، أو غابت عنه بشكل تام، انتهاء بالدائرة الشخصية، وتلك في الدرك الأسفل من الدناءة.
وكلما كان البالُ في شغل بهذه العقبات، لم يتقبل الترفيه، ولم تحرك فيه دواعي الفرح والنشاط الراكدة، بل قد يستقبلها على عكس المطلوب دون وعي بذلك.
من هنا كان استنكار الترفيه على كل الناس مدعاة للحيرة والعجب!
فإذا كان أفقرُ الناس في المجتمع، وأشُّدهم فاقةً وحاجةً من ضرورات العيش الكريم، يؤجِّلُ كلَّ نشاطٍ ترفيهي، وبسمةِ فرح ونكتةِ ضحك، إلى أن يصير غنياً وذا منصبٍ مثل فلان، وذا مال ومركبة وبيت واسع وعيش رغيد مثل “علان”، فإنه في الغالب سيموت ولم تظهر أسنانه لأحدٍ غير طبيب الأسنان.
ليس من الحمق ولا الغباء أن يجلس فقيرٌ يجتمع رأس ماله في جيب سرواله الخلفي، مع غني أتخمت أمواله بطون البنوك والشركات في مقهى واحد لمشاهدة مبارة رياضية، أو فيلم ماتع، مادام كل منهما يستشعر نفس النسبة من النشاط والإثارة.
وليس من البلادة أن يقعد أُمِّيٌّ أبكمُ اللسانِ واليد عن القراءة والكتابة، إلى جانب دكتور متعلِّم، يكتب من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين، مادام الأمر على ذات الوتيرة.

إن تشديد النكير على الناس خاصة في برامج الترفيه أو الرياضة التي تذيعها مختلف الوسائل، بدعوى أنها وسائل لتخدير الوعي، وأن المسؤول فلاناً يربح من ورائها ملايين الدولارات، وأن قطاع الصحة والتعليم في حالة كارثية… وهلم شرا كل أولئك إنما هو نوع من الارستقراطية الفارغة والعنجهية الصلعاء، باعثها الخفيُّ حب التميُّز والظهور في سمْتِ العقل والرزانة، وحجز تذكرة مزورة في مصاف العباقِرة والنُّبَغَاء.
ولا يشك عاقل في أن الترفيه مظنة لضياع الوقت، أو العقل، أو الوعي، أو المال، إذا جاوزت الغاية، وحسبُكَ أن كلَّ ما جاوز الحد المعقول يعود على صاحبه بالضرر أياً كان نوعه وجنسه، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
وإذا لم ينفع العقل صاحبه في التمييز بين الخَلتين فلا فائدة ترجى منه بعد ذلك.
إن من يتظاهرون في الغالب بتلك النظرة السوداوية يترفهون بوسائلهم الخاصة في منئى عن الجمهور، في زواياهم الخفية مهما ادعوا خلاف ذلك.
والحقيقة أن لا فرق بين أن تحمل كتاباً قليل النفع ـ وما أكثرها ـ وبين أن تشاهد فيلماً أو مباراة كرة، إذ لا يعدو كلاهما أن يبعثك على النشاط ويخفف عن روحك.
أفبعد هذا تنكر على الناس ما يفرحهم!
وإذا صح ذاك فللناس فيما يعشقون مذاهب.