هل يكون من الأحسن أن يعيش الفردُ منا حياته كلها، وينثُر
خريف العمر وأوراق أيامه، وتنسَلَّ خيوط أنفاسه رُويداً رُويداً حتى يَخْلَق عنهُ ثوب الحياة، ويسلم تلك الروح إلى العوالم الأخرى، وهو بعدُ لم يخبُر من صفحات الحياة وطيات الوجود إلا زاوية ضيقة أو زاويتين، وقد غابت عنه زوايا وخفايا أعمق وأجمل؛ ما بين معتمة ومضيئة، وحسنة وقبيحة، ومعقدة وبسيطة؟!
أوَلَمْ يَهْدِ للإنسان من حكمة شاكلة خلقه أن برأه الخالق ببصر ينظر لكل الجهات، بزوايا مديدة، ويسمع من كل الزوايا بطريقة سلسة، وكان ذا لسان وشفتين تقبل التحاور بكل اللغات! وذا فكر وقّاد، وخيال ثاقب تتماهى فيه الحقيقة والخيال، والواقع والأسطورة، والإلهام والوحي، والديانة والسحر، والحب والبغض…
وينسكب في قالبه الكون بما فيه ومن فيه، بل ينبثق عن ذلك كله عالم آخر، لم يخطر من قبلُ على قلب بشر!
فلئن كان المرء يولد حافياً عارياً، ويرحل كما وُلد، فحقيق به أن يأتي تلميذاً ويرحل تلميذاً، ويفتح عينيه على الدنيا متعلماً، ويغمضهما في هدأة الفناء كذلك متعلماً.
فلا أساذ في الحياة غير الحياة، ولا مدرس للمرء غير الليالي والأيام، وإنما تباين الخلق بمقدار وعيهم بها، واستبيانهم لدروسها وعبرها، ورُبَّ تلميذ للحياة أمي الكتابة والقراءة أعلمَ ممَّن استظهر مئات الصفحات، وقصارى ذهنه أنه مستودع للكتب لا يفيد منها إلا كما تفيد جدران الخزانات من رفوف الكتب!
وما شأننا والحياةَ وأسرارها ؟
نحاول كل حين أن نفهم كما ينبغي، وندرك كنه الحقيقة كما هي عليه، ثم يحول بيننا وبينها حائل غامض، كمن لا يفقه من الكلمات إلا معاني الحروف، كذلك نحن والوجود المترامي المركب والمعقد، وما أروع قول “غوته” (أيتها الحجارة حدثيني! أيتها الصروح الباذخة أجيبيني!، أيتها الطرق! انطقي بكلمة واحدة.
ألا تستيقظين أيتها الروح؟ بلى كل شيء حي في أسوارك القدسية أيتها الخالدة، إلا في ناظري وعند خاطري، فما برح الصمت على كل شيء مخيما!)
لا ندري هل تنجذب الروح نحو تلك العوالم المجهولة، أم أن الشوق يستبد بنا كل حين إلى مراتع الصبا ومرابع الطفولة، كشأن الطائر يخرج أول يوم من عشه مهيض الجناح، يتعثر في طيرانه، وتخونه خوافيه، كلما حاول العروج نحو عنان السماء.
أكُتِب على الإنسان أن يولد باكيا، ويعيش شاكيا؟
ما ترمِي بنا مقطوعة من موسيقى الحياة، إلا لتضمنا مقطوعة أخرى، وتظل المعزوفة تتناغم فيها النبرات إلى أن يعم الصمت، ونسكن ذاك السكون الأخير، حيث تكللنا أكاليل الزهور، وباقات الورد البيضاء والبنفسجية، كأننا نودع الحياة ونأبى إلا أن نتجمل بآخر ما يمكننا من زينتها، وجمالها الطبيعي.
شُغفنا في الحياة بكل جمال، وكل ألوان الطبيعة، فكم ضم الواحد منا بين يديه عصفورا مهيضا تاه عن عشه ولما يقدر بعد على الطيران، .
ربما نحن نرحم الحيوانات والعجماوات، بل ونبكي عليها أكثر مما نبكي على بعض بني الإنسان،
ليس لأننا حمقى ولا مغفلون، لكن لأنها لا تعدو علينا إلا بطبع غريزتها أحيانا، ولا تحمل في قلوبها لنا حقدا ولا ضغينة تخفيها وراء تلك البسمة الصفراء، خلافا لكثير من الناس.
وهذا ما نراه على محيا الأطفال، حيث تكون فطرتهم على طبيعتها وخلقتها الأولى، لا يعرفون من الحقد ولا البغض شيئا، ولا يعلمون من أمر حياتم وشؤونها إلا ما تصل إليه ايديهم الصغيرة وأعينهم المحدقة في المهد، لكن الغريب أن تكون هذه الحيوانات والأطفال تتمتع بخصلة الحب والحنان بطبيعتها ولو لم تع من أمور الحياة إلا ظواهرها.
وفي الأخير …
سيظل الإنسان يحبو في طفولته الأبدية نحو درجات الكمال، ولا يهم بعد ذاك هل وصل أم لا ما دام مستمراً يحاول.