تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها..
لا شك أن للكلام تأثيرا مباشرا على الإنسان، ليس فقط على نفسيته كما هو معروف ومشاهد، بل أيضا على دماغه، وهذا ما أثبتته الدراسات العلمية الحديثة في علم الأعصاب والتي ذهبت إلى أن تأثير الكلمات على دماغ الإنسان قد يصل إلى خلق مسارات عصبية جديدة في الدماغ مقاومة للمسارات السلبية الموجودة، وذلك من خلال تكرار كلمات إيجابية بشكل مستمر. كما أكدت أن المداومة على الكلمات الإيجابية يثخن القشرة العصبية، بمعنى أنه يزيد في الذكاء، ويخلف طاقة إيجابية في الدماغ وأثرا كالذي يخلفه تناول السكر أو العسل، فيعتدل مزاجه ويُقبل على الحياة بسلوك إيجابي. وأن مجرد ذكر اسم شخص محبوب يؤدي إلى فرز هرمونات تُشعِر الجسم بالراحة والسعادة والسرور. وفي ذلك ألّف المتخصص الأمريكي في علم الأعصاب أندرو نيوبيرغ (Andrew Newberg) كتابا بعنوان “الكلمات يمكن أن تغير دماغك” وقدم مثالا بكلمة سلام، وقال بأن تكراراها يوميا يُحدث أثرا في طرد مشاعر التوتر والقلق والتشتت والحزن.
كما أثبتت الدراسات نفسها أن الكلمات الخبيثة تحمل طاقة سلبية تحدث تأثيرا مدمرا في الدماغ، بحيث يمكن أن تميت بعض الخلايا أو تعطل عملها.
ومن جهتهم يؤكد علماء النفس أن الإنسان تؤثر فيه الكلمات سواء الإيجابية منها أو السلبية، من خلال تأثيرها على بعض مراكز المخ، وكذلك علماء الاجتماع الذين يرون أن للكلمات قوة قد تعادل أو تفوق قوة السلاح.
إن هذه الدراسات الحديثة لم تأتِ بشيء جديد، وإنما أكدت وأثبتت ما كان شائعا ومتداولا ومشاهدا بين الناس منذ زمن بعيد، ومعروفا وسط المجتمعات سواء المتحضرة منها أو المتخلفة في شأن تأثير الكلام على النفس البشرية إيجابا وسلبا. والأمثلة على ذلك كثيرة، فقد كان الشعر العربي الجاهلي -وهو عبارة عن كلام- مثلا يفعل فعلته في العرب، ويؤثر فيهم تأثيرا خطيرا ينعكس مباشرة على سلوكهم وردود أفعالهم، بل ربما قلب حياتهم رأسا على عقب. فكان يرفع الذليل، ويضع العزيز، ويُشعل الحروب، ويُحرك النفوس إلى البذل والعطاء. ولذلك كانت القبيلة العربية إذا نبغ فيها شاعر احتفلت به وأكرمته لأنها تعلم أنه سيكون سلاحا من أسلحتها في مواجهة القبائل الأخرى.
ومما يُرْوى في شأن تأثير الشعر على العرب أن قبيلة كانت تسمى ببني أنف الناقة، وسبب هذه التسمية أن رجلا ذبح ناقة فتقاسمتها نساؤه وبقيت واحدة لم يصلها شيء فأرسلت ابنها -وكان اسمه جعفر – كي يأتيها بنصيبها من الناقة، فلما وصل وجد أن الناقة قد وُزِّعت كلها ولم يبق إلا رأسها، فأدخل أصبعيه في أنفه وأخذ يجره، وكلما مر على قوم وسألوه ما هذا يا جعفر؟ قال: هذا أنف الناقة، فارتبط هذا اللقب به وبأبنائه وقبيلته من بعده.
فكان أفراد هذه القبيلة إذا سُئلوا عن نسبهم استحيوا ووجدوا غضاضة، وشعروا بالخزي والعار من ذكر اسم أبيهم وقبيلتهم، فيرتفعون إلى جدهم ويقولون من قريع.
واستمروا على ذلك حتى مدحهم الحطيئة بقصيدة لعل أبرز بيت فيها قوله:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يسوي بأنف الناقة الذنب
فصاروا بعد ذلك يفخرون بنسبهم، بل ويتباهون به، حتى إذا سُئل أحدهم عن نسبه جهر بصوته وقال من بني أنف الناقة. فحولتهم قصيدة الحطيئة من ذل وخزي إلى عز ورفعة.
وعلى النقيض من هذه القصة كانت قبيلة بني نمير من أكثر قبائل العرب فخرا واعتزازا بنسبها حتى أنه كان إذا سئل أحد النميريين عن نسبه، قال من بني نمير مميلا رأسه ومفخما الميم التي لا تفخم في لغة العرب.
حتى هَجَاهُم جرير بقصيدته المشهورة “الدامغة” وكان أشد بيت وقعا في نفوسهم هو قوله:
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلاب
فوضعهم وحط من قيمتهم حتى صاروا يستحيون من ذكر نسبهم أمام الناس.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت اهْجهم (أي قريش) لما يعلم من تأثير الشعر في نفوسهم، ويشبه شعره فيهم برمي النبل عليهم. فكان شعر حسان أشد على قريش من السيوف.
ومن أمثلة تأثير الكلام على الإنسان كذلك ما كان يقوم به قواد الحروب والمعارك عبر التاريخ من تحفيز وتشجيع لجيوشهم قبل بدء المعركة، فقد كانت جل المعارك تبدأ بخطبة لقائد الجيش، يكون لها من التأثير ما يجعل المحاربين يلقون بأنفسهم نحو العدو دون تردد، ويتسابقون نحو الموت دون خوف.
وأما في زماننا هذا فحدث عن تأثير الكلام ولا حرج، تأثيرا يتجاوز الأفراد إلى الجماعات، ويقلب حكم الأنظمة والسلطات، ويفتك أكثر من السلاح والدبابات، ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها شاهد على ذلك، وما يتعرض له الصحفيون، وذووا التأثير على الرأي العام من علماء ومفكرين وباحثين -من خلال أصواتهم وكتاباتهم – من مضايقة وتهديد وتصفية شاهد على ذلك أيضا، فكم من لسان كمم ليصمت، أو اشتري ليعرض، أو قطع ليخرس.
فإذا كان هذا تأثير كلام البشر، فكيف بتأثير كلام رب البشر. لقد كان تأثير القرآن الكريم على الناس أشد وأقوى، وقلب موازين التفكير والعمل لديهم، وغير عاداتهم وتقاليدهم التي ورثوها أبا عن جد. فهذا عتبة بن ربيعة جاء مفاوضا النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ترك دعوته، فكان الرد النبوي آيات من سورة السجدة جعلت عتبة يضع يديه خلف ظهره وينصت بذهول، ويتأثر بهذا الكلام تأثرا جعل أصحابه يقول بعضهم لبعض بعد رجوعه إليهم:”نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به” ويقولون له “سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه”. وهذا الوليد بن المغيرة يتأثر بالقرآن الكريم تأثرا عظيما يلخصه قوله فيه: “والله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى عليه.” وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينقلب مائة وثمانين درجة -كما يقولون- بعد سماعه لآيات من سورة طه. فيرق قلبه وهو الصلب الجلد، وتخضع جوارحه وهو الذي لا يلين ولا يخضع، ويضع سيفه بعدما كان حاملا له، والأعجب من هذا كله ذهابه إلى النبي صلى الله عليه وسلم معلنا إسلامه وتصديقه له بعدما كان محاربا له وعازما على قتله. والأمثلة على تأثير كلام الله تعالى على خلقه لا تعد ولا تحصى، ولا زالت مستمرة إلى يوم الناس. ولشدة تأثير القرآن الكريم على الناس دعا الكفار إلى عدم الاستماع إليه واللغو فيه. قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} سورة فصلت 26.
انطلاقا من كل سبق يمكن أن نفهم قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِتُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} سورة إبراهيم 24 – 26. فهما عميقا ودقيقا ومتجددا. حيث شبه الله تعالى الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة المثمرة، فكلاهما يؤتي أكله كل حين بإذن ربه، وفي ذلك تأكيد منه تعالى على تأثير الكلمة الطيبة على الإنسان تأثيرا لا يختلف عن تأثير الشجرة التي تطعم الناس بثمارها، موفرة لهم سببا من أسباب البقاء في هذه الحياة. فالكلمة الطيبة لا تخلف إلا أثرا طيبا على نفس الإنسان، والكلمة الخبيثة لا تخلف إلا أثرا خبيثا.
ونفهم أيضا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} سورة الأحزاب: 41 –42. فالذكر والتسبيح فيه تكرار وإعادة لكلام إيجابي، ليس ذلك فحسب، بل فيه تكرار لأحب اسم على قلب كل إنسان وهو “الله”.
ونفهم أمره تعالى لنا بالدعاء والإلحاح فيه وتكراره، والمداومة على تلاوة القرآن الكريم وعلى الأذكار، والإكثار من الصلاة والسلام على النبي.
وندرك قيمة بعض السنن التي كان يداوم عليها النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها استغفاره الله تعالى في اليوم سبعين مرة.
ولك أن تتخيل بعد هذا كله الخدمة الجليلة التي يقدمها المسلم لدماغه، وحجم التأثير الإيجابي الذي يمارسه عليه يوميا من خلال الصلوات والأذكار وتلاوة القرآن والدعاء والاستغفار. ففي الصلاة وحدها مثلا يكرر المسلم ويستمع لسورة الفاتحة، مع ما تحمله من كلمات إيجابية سبعة عشر مرة في الفرائض فقط، ويزيد عليها ما تيسر من القرآن، إضافة إلى الذكر والتكبير والتحميد والدعاء الذي يتخللها، والآذان الذي يسبقها، والأذكار التي تعقبها.
فأي روعة هذه التي تغمر دين الله تعالى، وأي إعجاز هذا الذي يجعله يساير العلوم الحديثة الدقيقة ويواكبها، ويضمر ما تصل إليه أبحاثها ودراستها، حتى إذا وصل الوقت المناسب، ووجد الإنسان المؤهل لفهمها، كشف عنها وبتها لتكون شاهدا على خيريته وأفضليته وعظمته واستمراريته.