تصوير الألم وتجديد الأمل في فلسفة محمد إقبال..
في سنة 1786 وبالضبط في بلدة كشمير نشأ وترعرع أحد كبار الشعراء والمفكرين في العصر الحديث “الدكتور محمد إقبال”، ولا يقل دوره للإصلاح الديني في الهند وباكستان عن دور محمد عبده والكواكبي للإصلاح الديني في الوطن العربي، متلقيا تعليمه الأولي بلاهور إلى أن حصل على شهادة الماجيستير بها، وحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة ميونخ الألمانية، ومعروف عنه أنه مجاهدا في سبيل دينه الإسلام ومفندا أراجيف خصومه في عدة محاضرات أقامها في مجموعة من البلدان التي مكث فيها كبريطانيا…
عاش إقبال في القرن التاسع عشر إلا أنه أدرك القرن العشرين بفطرته ونباهته، ووقف على حياة الغرب وذلك بالإقامة به لفترة من الزمن، وصفه الأستاذ عباس محمود العقّاد بأنه “طراز العظمة الذي يتطلبه الشرق في الوقت الحاضر، وفي كل حين، لأن عظمته ليست بالدنيوية المادية، وليست بالأخروية المُعرضة عن الدنيا، وهو زعيم العمل بين العُدْوتين من الدنيا والآخرة، قوّام بين العالَميْن كأحسن ما يكون القوّام”.
اشتغل في المحاماة وأيضا أستاذ للتاريخ والفلسفة في الكلية الشرقية بلاهور وكذا الأدب العربي والفارسي في الجامعة نفسها، والأهم أنه تفرغ في نهاية حياته إلى الشعر غير منقطع عن الوسط العلمي الذي نشط فيه سابقاً.
كان إقبال من كبار الشعراء في باكستان والهند، بدأ بنظم شعره في البداية بالأردية والفارسية ضمن بها نظرته للوجود والأخلاق وفلسفته وتفكيره وعواطفه وأيضا تغيرات العالم والعالم الإسلامي بالخصوص، محاولا إشعال فتيل الغيرة والشعور بالحماس في قلوب المسلمين، ومحاولا بذلك بناء جيل جديد.
يقول الأستاذ عبد الوهاب عزام “لا أعرف كشعر إقبال، معرفة بالحياة وداعيا إليها، معظما للإنسان، ونافثا الأمل والهمة والإقدام”. والقارئ لشعر محمد إقبال سيلاحظ أنه مفعم بالحب والإيمان والدعوة لتأمل الذات والطموح، وبه يفرض المجد الأدبي لإسلامي للقارة الهندية لبرهة من الزمان.
إنشاد إقبال للشعر المليء بالأسرار والرموز فرض نقله إلى الحضارة الشرقية، فترجم إلى اللغة العربية واطلع من خلاله القارئ على رؤية إقبال الشعرية الفلسفية للوجود والكون، بالإضافة إلى الدعوة إلى الوحدة الإسلامية ورفعة شأن العرب حتى قال فيه بعض الباحثين كمحمد المختار الشنقيطي أنه أعجمي ذو لحن حجازي، كما تظل أشعاره مرتبطة بالوقائع والأحداث التي يتعرض لها المسلمون.
تصوير الألم وتجديد الأمل:
يخلق موضع الأم بين كلمتي الألم والأمل معنى مغايرا في مقابلة كل واحدة منهما للأخرى، فإن نحن أرجعناه بعد الميم نكون قد لامسنا صميم ما دعا إليه الكاتب، أي أمله في تحقيق الوحدة الإسلامية، ومستنهضا لعزيمة المؤمن في إدراك الوحدة ومعنى الوجود، وإن نحن أرجعناه قبل الميم نكون قد عبرنا عن شبح لطالما أراد الشاعر القضاء عليه وهو شبح الفرقة الرهيب الذي مزق ألفة المسلمين وأضعف قوتهم.
فهذه الأخيرة هي قصيدة رمزية يصور لنا فيها إقبال عظمة الفطرة الإنسانية ومقام الوحدة، وكذا عجزه وفقره أمام قدرة الخالق سبحانه وارتباطه بأمته فيقول:
فقري لخلاقي غني عن خلقه****فأنا الغني وإن غدوت فقيرا
وأرى فناء العيش خيرا للفتى****من أن يعيش على الفناء أسيرا
أنا الأمة فيما أريد لأمتي****ولايتي دنيا من الأجيال
وأرى بمنظار الحقيقة كلما****يبديه في الحق الصريح خيالي
فلم يكن إقبال متصنعا في التعبير عن الحقيقة ومجابة الطغاة بل كان يعبر عنها تارة صراحة وتارة بالخيال وتارة بالسخرية، وكان يرى في نفسه الأمة كما يرى في الأمة نفسه، ويدعوا بإنقاذها بدءا من نفسه وبعدها من الجيل الذي يأمله، مستشرفا القضاء على الحوادث التي توالت على العالم الإسلامي، كما أنه لا يرى انفصال لزئير العبد بغير مساندة ربه له وأنه لا خوف للعبد من العبد سوى خوفه من ربه، فمهمة العبد في الأبيات التالية معالجة المشاكل والانطلاق للإصلاح متخليا عن الجمود والخمول فيقول داعيا:
قم أنقذ الوطن الكريم ولا تنم****هذي الحوادث آذنت بدخان
إني لألمح في السماء تآمرا*** وأرى طلائع وابل النيران
فاخلق لروحك من زئيرك نشوة ****في المجد ترهب في العرين أسودا
واجعل نشيدك قول ربك لا تخف**** حتى يخاف البرق منك رعوداً.
ويمضي إقبال بأبيات يعكس فيها جهوده في إشعال فتيل مشاعر السامع وإيقاظ القلوب وإحيائها، وإسماع صرخات إيمانه وصوتها، نافيا شيء يطلق عليه المستحيل فيقول:
دنياي آلام تذيب حشاشتي **** لا تمنعوني أن أبث جروحي
أني سأوقد في القلوب شموعها **** وأزيد شعلتها بجذوة روحي
المستحيل بدا لعيني ممكنا
ولم يتوقف عن الدفاع عن لمة الأمة الإسلامية وحب الأوطان فقد كان سؤال الوحدة من شواغله في عدة أشعاره وهو ما جعله مخاطبا العرب ورافعا شأنهم متأسفا على تفرقهم مذاهبا وأحزابا:
أتعيش بين المؤمنين مفرقا****للمسلمين وتدعي التوحيدا
وتظن ذكرك طاعة وعبادة **** وهواك صار إلهك المعبوداحرية الأوطان ينمو غرسها**** في الاتحاد على هدى الإيمان
أما امتياز أنا وأنت فإنه****شرك الردى والذل والحرمان
مختتما إقبال هذه القصيدة بأبيات رفيعة يعكس فيها مسالك المسلمين الحقيقين باتصالهم وانتماءهم واتحادهم مع بعضهم البعض، واقفا مغلوبا من عاطفته تجاه هذا الإخلاص والمودة:
لم ألق في هذا الوجود سعادة **** كمودة الإنسان لإنسان
لما سكرت بخمرها القدسي لم **** أحتج إلى تلك التي في ألحان
معنى احتراق القلب في الإخلاص ****أن القلب يصبح كله نوراً
ولقد تحولت الفراشة شمعة**** لما أن احترقت فأضحت نارا
يمتاز شعر محمد إقبال بالجمال الرفيع والتركيب المذهل بين الذات الإنسانية، مصورا معركة العبد المؤمن في الأرض وعلاقته بالله تعالى، ذلك المؤمن الذي لم يتجه لله دون عمل في الأرض ولا عمل في الأرض دون توجه إلى الله.
بين الألم والأمل حاول إقبال إخراج الأمة من الألم والتشتت والفرقة إلى الأمل والتآلف والتلاحم والوحدة والتعاون…
فهل تحقق ما حاول إقبال أن يصبوَ إليه من وحدة وغيرها؟؟
المصادر والمراجع:
– محمد حسن الأعظمي، الصاوي علي شعلان، فلسفة إقبال والثقافة الإسلامية في الهند وباكستان. دار الفكر، دمشق.١٣٩٥ه،١٩٧٥م.
-عبد الوهاب عزام، محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره. مؤسسة هنداوي، القاهرة.٢٠١٤.
-محمد مختار الشنقيطي، خيرة العقول المسلمة في القرن العشرين. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت،٢٠١٦.
-محمد فتوح، محمد إقبال فيلسوف الإسلام وشاعره في الهند، موقع ميدان،
-مصعب الحرار، فلسفة محمد إقبال الشعرية، مدونات الجزيرة،