خواطر في مترو بروكسل
في هذه اللحظات التي لا تأتي فيها أنشطتي اليومية بأي متعة تذكر، حيثُ تسأم فيها روحي من تتالي الأيام وتشابهها، حيثُ أستقل ميترو السابعة وعشرين دقيقة صباحا دون أن أكثرت لقراءة بضع صفحات من مؤلف اقتنيته لا لشيء سوى لكي لا يتسرب لي الملل في هذه المركبة التي أكرهها. الميترو قبيحٌ، ذلك أنه صنع كرهاً، فهو لا ينتظر أحداً. ولكثرة استعمالي للمترو فإن تلك اللازمة المرعبة التي يشكلها تكرار جلبة الانطلاق والفرملة تُحفر في ذاكرتي، يُقاطعها صوت رتيب يُذكر بمحطات الوقوف: أوسجهيم… سيمونيس ليوبولد II… بيلجيكا… بانينهويس… بوكستال… ستويفينبيرغ… هوبا بروغمان.
في هذه اللحظات النادرة أبدأ بقراءة أوجه من أتقاسم معهم المقصورة والطريق، أرى تعبيرات متنوعة وعوالم مختلفة. أناس يتشاركون نفس المكان لكن قلب كل واحد منهم في مكان آخر، في بلده الأم ربما. وهذا ما أحبه أكثر في بروكسيل، أحب فيها تعددها العرقي وتنوعها الثقافي..
أرى في وجه من يقابلني الاضطرار إلى القيام بعمل جسدي يكرهه لكي يكسب قوت يومه هنا في بلجيكا على أمل أن يُباشر لاحقا مشاريع في أوروبا الشرقية.. يبدو من ملامحه أنه روماني أو بلغاري.. فبحكم أنني أقوم بالمداومة بالمستعجلات بدأت أميزُ بين مواطني أوروبا الشرقية. وللأسف أن عامي في بروكسيل أوشك على النهاية فآخذ إجازتي خلال العشرين يوما الأخيرة من رمضان حيث أن مواقيت العمل لا تتغير هنا: من الثامنة صباحا إلى السادسة مساء ولا تغرب الشمس حتى العاشرة. ولولا ذلك لقُمت بجولة كبيرة في هذا الجزء التاريخي من أوروبا حيث الناس أقل برودة وأكثر استرخاء من نظرائهم في أوروبا الغربية الذين انحرفوا بسبب ثالوث التصنيع والإنتاج والاستهلاك.. تدل يد من يجلس أمامي على أنه بناء أو أنه يعمل في الأشغال العمومية. نفس اليدين تلمسان شاشة آيفون من الجيل الثالث وفي أذنيه سماعات، ربما هو منهمك في لعبة “سوليتير Solitaire” ويستمع لأغنية رومانية أو بلغارية تُذكره بالزمن الجميل في بوخاريست أو صوفيا.. لديه الحق في علاجات مجانية في أرقى مصحات الجراحة في حالة تعرضه لجرح ما. فهو يتوفر على تغطية صحية ومنزل وسيارة كما أن أطفاله يتوجهون بسلام للمدرسة ويؤدون الضرائب، هو يعيش أفضل هنا وعكس البلجيكيين لم تمسه حمى الاستهلاك ولا تُقيده اشتراكات من أي نوع ولا يلجأ للاقتراض فهو يقتصد بترو، ببطء ولكن بثبات، وعليه أن يتريث لبضع سنوات كي يتمكن من طلب الجنسية ويعود إلى بلده الأصل.
إلى جانبه يجلس إفريقي، وهو كونغولي دون شك فهم يشكلون الأغلبية من إفريقيا جنوب الصحراء هنا في بلجيكا. لهم وجه دائري ولونهم أكثر دكونة ويميلون إلى ارتداء الملابس ذات الألوان المبهرجة. هذا الكونغولي يتنقل الآن في وسائل النقل العامة في بلد استعمره يوما ما. مثل جزائري في فرنسا، مثل مغربي في إسبانيا، مثل مصري في بريطانيا، مثل ليبي في إيطاليا أو مثل عراقي في الولايات المتحدة. وهو في الغالب من الكونغو-كينشاسا أو جمهورية الكونغو الديمقراطية التي كانت تعرف بالزايير فيما مضى. وفي باريس نجد الكونغوليين الآخرين المنحدرين من كونغو-برازافيل المستعمرة الفرنسية السابقة. فقد تم تقسيم الكونغو الكبير نظريا في مؤتمر برلين في العام 1884 بين فرنسا وبلجيكا. وفي نفس المؤتمر تم التأسيس للمبادئ الكبرى لتقطيع القارة الغنية. يذكرني هذا الكونغولي المنهمك هو الآخر في قراءة كتاب قديم يبدو أنه إنجيل بِسيلين، بزميل لي سافرت معه في العام 2007، مسيحي ملتزم. لا أدري ما هي الآلية التي نبدأ بها بمجرد تعرفنا على شخص ما ومقارنته بموطنه الذي عرفناه من قبل. فقد ذكرني بكونغولي آخر شاركني ردهات العمل: كان طبيبا متمرنا يحاول الخروج من الانسياق الذي تفرضه الدراسات الطبية. فقد أذهلني بإلمامه الشامل بتاريخ المغرب وسياسته، كان مدمناً على “جون أفريك”. كما كان الطبيب المتمرن الوحيد الذي استطعت أن أناقش معه مسألة الثورة في البلدان العربية وهو موضوعنا المفضل ومسائل شائكة أخرى طيلة فترة تدريبه. لقد كانت الأسابيع الثلاثة الوحيدة التي سمحت فيها لنفسي بالتحدث بجدية مع أحدهم حول ما يقع فعلياً في العالم. عندما غادر كان محتماً علي أن أعاني مرة أخرى من عذاب النقاشات الصبيانية حول ما يُنشر في مجلات “بيبول People”: كقضية دومينيك ستراوس كاهن وزواج الأمير ألبيرت ووشم أنجلينا جولي الجديد وعطل جوني ديب مع فانيسا بارادي…
إلى جانبي يجلس بلجيكي من أصل مغربي ويقرأ آلان كريش، هكذا يحلو لي أن أدعوهم، بلجيكي الجنسية مغربي الأصل، بثقافة بلجيكية-مغربية، يبدو في 27 من عمره، يرتدي قميصا على المقاس بمربعات بنية وسروال جينز بدا باهتا بعض الشيء، وفي معصمه الأيمن سوار فضي ضيق واختار نظارات بعيدة عن الموضة توحي بجديته. يوحي الكتاب الذي يمسكه بين يديه بأنه خرج عن مألوف المغاربة في بلجيكا.. هم أجداده القدماء في سبعينيات القرن الماضي، أولئك الذين شيدوا الطرق وشقوا الأنفاق وبنوا محطات المترو.. أجداده أتوا إلى هنا نزولا عند رغبة بلجيكا لبناء البلاد التي كانت قد خرجت للتو آنذاك من الحرب وجددت ساكنتها. من الغريب إذن على سلالة البلجيكيين –إذا بقي لهم وجود أصلاً – أن يطلبوا ممن كانوا قد استدعوا لحاجة في الأمس الاندماج بالشكل الكامل اليوم. من الغريب أيضا على مغاربة الأصل الذين رأوا النور هنا أن لا يسايروا القيم الغربية بشكل عام والثقافة البلجيكية على الخصوص عندما لا يعارض ذلك الإسلام. لا شك في أن الشاب الجالس بجانبي يعاني من شر لا بد منه، يعاني من إشكالية الاندماج. وهي الإشكالية التي ستختفي عندما يرفض المغاربة الحديث عن الاندماج. لقد ولدنا في بلجيكا وولد آباؤنا هنا وساهم أجدادنا بدورهم في بناء البلاد. نحن بلجيكيون بشكل مختلف شيئا ما، فالبلجيكي ذو الأصول البولونية أو البلجيكي ذو الأصول المقدونية مختلفان بدورهما. لكننا نتمتع بنفس الحقوق مثل الآخرين وعلينا نفس الواجبات. بمجرد ما تبدأ الجالية المغربية بإلباس الإشكاليات ثوب الثقافة وأسلمة النقاش تخسر الرهان أمام عنصرية خبيثة تدفعها إلى العزلة العاطفية وإلى الإيذاء. يبدو الشاب الهادئ الذي يجلس إلى جانبي ذكيا كفاية لكي يلتف على هذا العائق من خلال مواجهة أصحاب الأحكام المسبقة بالنصوص القانونية.
الأجواء داخل هذه الآلة جليدية والتصرفات أوتوماتيكية. نستقل المترو ونجلس بجوار أحدهم، إذا كنا مهذبين بحكم تربيتنا نتمنى لهم يوما سعيدا، وإذا كنا معتادين على تصنع المجاملة لتحقيق مكاسب اجتماعية ومهنية لا ننبس ببنت شفة حين لا يبدو من يجاورنا ذا أهمية أو جاه. نفتح الحقيبة لكي نخرج الكتاب الذي لا نقرأه إلا في وسائل النقل العامة ما دام يوم من يستيقظون باكرا لكسب دراهم معدودة ينتهي بسرعة. يأخذنا مؤلف كاتب ما أو تحليل كاتب مقالات أو تأخذنا بسذاجة الرسوم الكرتونية، إلا أن جزءا من دماغنا وكأنه ساعة رملية لا ينفك يعدُ الوقت المتبقي لمغادرة قاعة القراءة المتحركة هذه وعلى حين غرة ننهض ونفتح الباب.
الأقل حظاً يترجلون من مركبة إلى أخرى والكسالى يتقاعسون للصعود في السلالم المتحركة، وهم سيقدرون على السير في كل الأحوال بعد ذلك لكنهم ينتهزون هذه اللحظات الأخيرة من الخمول التي يمنحها لهم العالم الصناعي. بيْدَ أن البدناء والحريصون على أجسادهم والرياضيون والحيويون بطبعهم يفضلون السلالم، فهي تحرق نسبة أكبر من السعرات الحرارية: إذ يكفي المشي لمدة ثلاثين دقيقة لتفادي زيادة في الوزن.
عند مغادرتنا للمحطة نحضر مشهدا حماسياً في الوقت المفضل لمن يعتمدون على النيكوتين: سيجارة الصباح. هم في العادة أولئك الذين يستعملون السلالم المتحركة والذين يستعدون وهم صاعدون إلى إخراج سم ناعم من العلبة والبحث عن ولاعة في غياهب حقيبة الآنسات بإكسسواراتهن الفائضة التي تصون تنميقات الوجه أو عن ولاعة أخرى في الجيب الداخلي الأيسر لسترة السادة الذين يضعون محفظتهم قرب قلبهم. على كل شيء أن يكون قريبا حتى تُشعل السيجارة بمجرد أن تطأ الأقدام الأرض الثابتة. النفس الأول مثير فهو يولد شعورا بالارتخاء على المدى القصير ومزيجاً من السرطانات وأمراض القلب والأوعية الدموية لاحقا. وسرعان ما ننفر من السيجارة الأولى فننهيها لأنها تكلفنا ماديا، فقد أصبح الأمر كرد فعل منعكس، أو لنصفه بالأحرى بمنفذ إغاثة. وبغض النظر عن الأنشطة التي نقوم بها وجب أن تكون مترابطة ومتتابعة لتسمح لنا بالهروب إلى الحوار الكبير المستمر مع الذات، في دعوة للروح وفي تخوف من الملل والعزلة. علينا أن نكون منشغلين بكل شيء وأي شيء. فبعد السيجارة التي نطفئ بمدخل أبواب العمل نستقل المصعد ونضع سترتنا. ثم نتجه بلهفة نحو موزع القهوة ونحن نوزع في التحايا. نضع الكوب قرب الحاسوب الذي نشغله. نرتب ما هو أمامنا في انتظار اشتغال الآلة التي أحدثت ثورة في العالم.
تسجيل الدخول.. كلمة المرور.. فُتح النظام.. إلى العمل !