يقال بأن الله يطل على مكة بجلاله وعلى المدينة بجماله.. بالفعل، إحساس ما يلازمك طوال تواجدك في مكة، هذا الإحساس هو الرهبة !
التجمع الرهيب لملايين البشر من كل الأجناس والبلدان والثقافات، برجالهم ونسائهم وشيوخهم وأطفالهم في مكان واحد بالشكل الغير منظم خارج أوقات الصلاة يذكرك بالبعث والمحشر والجمع الأكبر.
أفكر بأمور كثيرة وأنا أجول محيط المسجد الحرام؛ وأنا أنظر إلى هذه الوجوه التي أتت إلى هنا لتدعوا المجيب ولتقترب أكثر من القريب؛ وكيف أن الله يعرف كل شخص من هؤلاء، أسراره وأمانيه.. يسمع نداء الكل ويستجيب لدعاء الكل، يرزق ويحفظ ويرحم الكل؛ ثم أنظر إلى نفسي وسط هذا الكم الهائل من البشر فلا أجد لنفسي في هذا المكان المزدحم والجو الحار تلك المكانة المميزة وذلك الاحترام والتقدير والهيلمان الخداع التي تعطيه لك ظروف الحياة. الناس في مكة مشغولون بأنفسهم. شكل المدينة الوعر، ظروفها المناخية الصعبة، الاكتظاظ الشديد، الصلوات المفروضة والنوافل المتقاربة – سواء كانت تراويح أو تهجد – لا تترك للإنسان الوقت ولا الرغبة في النظر والتدقيق فيمن هم حوله. هذا الجو الرهيب لا يمكنه إلاّ أن يذكرك باليوم الموعود، وهذا التذكير الدائم لا يمكنه إلا أن يحدث في نفسك رهبة لا تفارقك ما دمت في مكة.
أما عندما يسود النظام المطلق في أوقات الصلاة، في مساحات تضم مختلف أنواع البشر بجنرالاتهم وأساتذتهم وفنانيهم ومثقفيهم وفوضاويهم؛ فالكل يتحرك وفق نمط واحد وصفوف موحدة لا عوج لها. عندها يتكلم الجميع لغة خالق التوازن والتناسق والجمال. يسبحون وسط الآيات الرنانة المنسجمة البليغة والتعابير الحركية الجماعية التي ترسم أبهى وأرقى أنواع الإستواء والانضباط. لا أظن أن هناك ملك ولا رئيس ولا رجل سلطة يستطيع أن يساوي في صف واحد بين غني وفقير، سعيد وتعيس، بين صحيح ومريض وشاب وعجوز. يتحركون بنفس الطريقة في سكينة وطمأنينة وراحة نفس في كل ركوع وسجود.
في مكة وحدها تشاهد وتستمتع بهذا التحول المفاجئ لكل المدينة من فوضى عارمة إلى نظام محكوم عند كل صلاة، وكأنها تلقنك أهم درس في الحياة، بأن دوام الحال من المحال، وأن الله يغير من حال إلى حال، وأن مع كل محنة منحة، وأن مع العسر يسر، وأن السنوات العجاف الحالكة الموجعة الغير منظمة ستعقبها لا محالة سنوات سمان مشرقة ضاحكة، وأنها سنة مستقرة في الحياة، كتعاقب الليل والنهار.
قد يجلس إلى جنبك في الحرم المكي أعلم العلماء تنهل من علمه وترتوي من حكمته؛ تسأله فيجيبك وتحكي له عن مشكلتك فيعرف موطن الداء ويصف لك الدواء؛ وقد تصادف في مصلاك أجهل الجهال، يضيق عليك مكانك بسوء خلقه وقلة أدبه وسوء فهمه لأمور الدين والدنيا. وفي كلاهما خير؛ تأخذ من الأول العلم وحسن الفهم، وتتعلم من الثاني الصبر والتسامح وضبط النفس.
وقد يجلس إلى جنبك في الحرم مسكين من بورما ضاقت به الأرض فهاجر للعمل في المملكة، يحكي لك قصة إبادة شعب لم يسمع عنهم أغلب من يطوفون. ثم تتحدث مع تاجر عراقي عن تاريخ بغداد، يروي لك قصص الماضي والتراث الأصيل وما آلت إليه البلاد من صراعات عرقية وإختطافات وانفجارات، ثم تلتقي بمجموعة من المعتمرين الماليزيين والأتراك، يذهلك تنظيمهم المحكم ولباسهم الموحد ومنطقهم السليم، يحكون لك عن تجربتيهما الناجحتين، وكيف انتقلتا من الديون والعبثية والهموم إلى مصاف الدول المتقدمة الراقية الهنية.
التجوال في المسجد الحرام يجعلك تطرح الكثير من الأسئلة. الإندونيسيون مثلا هم دائما الأكثر توافدا على مكة سواء تعلق الأمر بالحج أو العمرة، يتبعهم الباكستانيون، وبالرغم من أنهم الأكثر تعدادا فلا تكاد تسمع لهم صوت ولا يصدر منهم سوء … العرب المسلمون لا يشكلون سوى 20% من المعتمرين، أصلا لا يشكل العرب سوى 16% من مسلمي العالم، وبالرغم من قلتهم سواء في الحرم المكي أو في العالم الإسلامي، فإن أغلب النزاعات تقع بينهم وأغلب الشكوى تصدر منهم. في الحقيقة لا أدري هل الأمر مرتبط بالجينات أم هو تركيبة مجتمعية في هذه الدول تخرج للوجود إنسان قابل للاشتعال في أي لحظة …في حين نجد أن الأجناس الأخرى هادئة جدا ومتسامحة بشكل مُلفت!
أحب أن أتحدث مع الناس بعد نهاية كل صلاة، خصوصا إذا تعلق الأمر بالجزائريين، لأَنِّي لا أبذل جهد التحدث بالعربية الفصحى. يفهمون الدارجة المغربية جيدا. أحب هذا الشعب كثيراً. أتحدث معهم عن مشكلة الصحراء وعن الوحدة المنشودة بيننا. لم أقابل أحدا يعارض فتح الحدود أو مغربية الصحراء، بل لم أحس يوما بأن هناك جزائري واحد ينفر مني لكوني مغربي أو لأني أحدثه في هذه الأمور. ولذلك أن مقتنع بأن هذه القضية ليست قضية شعبين و إنما هي قضية دول ومصالح وحكومات.
أحب كذلك أن أستمتع لحديث الموريتانيين. عكس المغاربة والجزائريين، فهم شعب هادئ يتقن العربية الفصحى، ويحب الشعر ويعشق السمر حول الشاي الصحراوي الأنطولوحي. تحدثت مع السودانيين حول الانقسام والصوماليين والليبيين واليمنيين حول ما تعانيه بلدانهم من اضطرابات مزمنة. تحدثت مع مسلمي أوروبا وأمريكا وأستراليا حول حقوقهم وواجباتهم. حقوق يراها من هم تحت ويلات الحروب والصراعات كالأحلام، الحق في العيش الكريم وأن يكون لك بيت ومهنة قارة، وأن تخرج مع عائلتك إلى حديقة عمومية لا تخشى الصواريخ والانفجارات والاختطافات وما إلى ذلك من حقوق الإنسان والحيوان و النبات ، تلك الحقوق التي لا تطبقها هذه الدول إلا فوق أراضيها..تحدثت كذلك مع شعوب غريبة من أصول غريبة لم أكن أعلم بها. تحدثت مع روس وصينيين وأمريكيين وبريطانيين وفرنسيين مسلمين، وكنت كما لو أنني في قمة الدول العظمى لتقرير مصير الشعوب الأخرى.
في الحقيقة، يكون الإسلام جميلا عندما يدخل قلب إنسان واعي ومثقف، أحب أن أسمع النرويجي المسلم الذي بحث عن ذاته ومعنى لحياته طويلا وهو يتحدث عن الإسلام وعن هدف مجيئه إلى مكة. تحدثت مع المصريين عن رئيسهم النكتة وعن مستقبل هذا البلد الإستراتيجي في جسم هذه الأمة. المصريون يتحدثون كثيرا وهم متواجدون بكثرة، يصعب أن تفهم وجهة نظرهم لأنها تختلف من مصري لآخر. أظن أن اللهجة المصرية هي الأكثر ترددا في الحرم ومحيطه. مع كامل الأسف لم ألتقي الفلسطينين ولم أتحدث إلى السعوديين ولا إلى الخليجيين.
زيارة مكة هي بمثابة حضور مؤتمر عالمي للدول الإسلامية تحضرها الشعوب عِوَض رؤساءهم لا تقرأ في هذا التجمع الخطابات الخشبية ولا تردد فيه الشعارات الفارغة، لم تجمعهم مصالح اقتصادية ولا أغراض سياسية. مؤتمر سلام حقيقي يلتقي فيه المسلم مع أخيه المسلم على العبادة والمحبة، يقرؤون القرآن ويرددون الأذكار، تجمعهم أواصر الدين ومستقبل هذه الأمة. لو أعطيت هذه الشعوب حق تقرير مصيرها حول موائد الإفطار التي تتجلى خلاها معاني الوحدة والإخاء والتلاحم والتآزر لكان لواقعنا شأن آخر.
تتجلى في مكة كذلك مظاهر البر بشكل واضح. فجلب أحد الوالدين أو كلاهما لتأدية ركن الحج أو العمرة، يعد في الكثير من المجتمعات الإسلامية من أعلى درجات البر. فترى الرجل يحمل أمه ويطوف بها، والآخر يطوف ممسكا بيد أبيه المسن الذي لا يبصر.
لا يمكن أن أسمح لهذه اللحظات من الصفاء أن تجتاح روحي دون أن أنقلها إلى الآخرين عبر هذه الكلمات.. بهذه الطريقة ينتابني الإحساس التام بالسلام الداخلي، عندما أوقن بأن الأشخاص الذي أحبهم يحملهم نفس النسيم الرباني … هذا النسيم اللطيف و الزكي الذي ينساب بلطف في مسام جسذي و يتسلل الى أشد الأماكن ظلمة في روحي. لا أدري هل تفهمون إلى ما ألمح إليه، هاته الأماكن العميقة بدواخلنا، هاته الأماكن المنيعة التي لا تسبر أغورها نكتم فيها أسرارنا، يحتجب فيها الحقد عن العيان و تختبئ فيها غرائز الشر الكامنة فينا و يعلو فيها صوت الأنا على كل شيء …عبور هذه النفحات الربانية بهذه الأماكن يشبه اختراق أشعة الشمس الأولى لكهوف الجبال … عندها يذوب الحقد و ينتهي اختفاء وطواط الكهوف عند دخول النور اليه … أشعر بذوبان هذا الحقد تدريجيا و بتهذيب النفس و بدحر الشر فيها. أحس بالسكينة التي تتنزل حتى أغفر لنفسي كل شيء … عندئذ أبدأ بحب نفسي و نفوس الآخرين …
آمل أن تشعروا بهذه الحرية و هذا السلام ذات يوم … كما أحس به اليوم في مكة