كانت رحلة عبر الزمن، رحلت عن الماضي لتطير إلى المستقبل وتبدأ فيه حياة أخرى مليئة بالتجارب و الأفكار والوجوه. كانت الصين كالحلم الوردي تلوح لي من بعيد منذ الصغر كنت قد وضعتها في أول سطور Bucket List، لتمر السنين وأتوجه إليها لأنهي سنوات دراستي هناك حين سمحت لي الفرصة.
استقبلتني بلاد المليار ونصف نسمة بجو ممطر وبارد شيء ما. وصلت إلى المدينة التي قطنت فيها لمدة أربعة أشهر ليلا، كان العديد من الطلبة ينتظروننا، ليمدوا لنا يد العون نحن الطلبة الجدد ويساعدوننا على التأقلم مع أول ليلة بعيدا عن وطننا وأهلنا ونحن قد تجاوزنا العشرين للتو.
لم يكن اليوم الموالي كسابقه، لبست الطبيعة لونا زهريا، وابتسمت الوجوه لنا كل مكان، الكل كان يريد أن يساعد غرباء قد أتوا لتوهم من المغرب. كان التأقلم سيكون صعبا جدا لولا مساعدة الصينيين لنا، شعب مضياف خدوم خجول. كانت وجنتا الصيني تشتد احمرارا مع أول سؤال، فيحك رأسه أو يصوب نظاراته قبل أن يجيب عن السؤال بكل إخلاص. بعد أيام التعرف والتأقلم، بدأنا الاستكشاف والزحف في شوارع مدينة نانجينغ الهادئة ، كان كل شيء يوحي بالعظمة والنظام والأمان كذلك، فلم تكن تجد الأنثى منا أدنى مشكلة في التنقل والتجول حتى ساعات متأخرة من الليل، لم يكن يزعجنا أحد، مطلقا.
مدن الصين التي زرت كلها مزيج من الحضارة والتاريخ والعولمة، في كل مكان تزوره ترى الحاضر والماضي و المستقبل، بنايات شاهقة ومتاحف و معالم أثرية ومعابد وأسواق قديمة ومولات فسيحة، كلها جذورها تضرب في عمق التاريخ لتزهر في سماء المستقبل. رغم الكثافة السكانية التي تعرفها المدن إلا أن كل شيء منظم بيد سحرية لا تعلم من أين أتت، لكن بحكم معاشرتي لهم اكتشفت أنهم شعب منظم، تعلم كثيرا من الماضي، من الثورات و سنوات المجاعة والفقر و الاضطهاد والعمل في الحقول. أصبحوا وطنيين أكثر مما مضى، جعلتهم المحن يحبون وطنهم أكثر ويريدون التضحية من أجله بكل شيء. مرة دعتني صديقة صينية إلى مطعم تقليدي للسمك، لبيت الدعوة فرحة، بعد انتهائنا، أصرت على النادلة لتعطيها الفاتورة، أصرت بشكل غريب، لم أفهم الأمر فسألتها عن السبب، قالت لي أنه بهذه الطريقة ستتأكد أن صاحب المطعم سيدفع الضرائب للدولة. لم تكن حكومة الصين الوحيدة التي انتهجت الإصلاح من أعلى الدرج لأسفله بل المواطنون كذلك.
قبل خمسة عشر سنة أو أقل، حسب رواية بعض الأصدقاء الصينيين، كانت الصين من شرقها حتى جبال الهمالايا ترزح تحت الكثير من الفقر والظلم والفوضى، كانت القرارات المتخذة صعبة جدا وراح ضحيتها الملايين من الشعب، كالثورة الثقافية،التي لم تكن تملك من اسمها شيئا، والتي خلفت أزيد من مليون قتيل والملايين من المقموعين والمحبطين. قبلها كانت الحرب التي شنتها اليابان على الصين ثقيلة النتيجة، أبيدت مناطق ومدن عن آخرها، لكن شعب حضارة الهان يعرف كيف ينتفض من قلب الدخان كذائق الفينيق ويعيد بناء نفسه من جديد. فحضارة عمرها أزيد من اربعة آلاف سنة لا يمكن لها إلا أن تكون قوية وراسخة في الذاكرة والتاريخ.
كل هاته الأمور كنت تحس بها عند المواطن الصيني الذي كان مستعدا للعمل عشرين ساعة في اليوم ليكون في مصاف أو يتفوق على الدولة التي استعمرته كاليابان. وطنية الصيني هي ذاكرة التاريخ و رؤية مشرقة للمستقبل، يتخذون من ماضيهم الحزين والمليء بالمآسي حافزا ليكونوا شعبا أفضل من الأمس، وهذا ماجعل منهم قوة اقتصادية وثقافية وسياسية و جيوستراتيجية تغزو العالم بأسره.
لا يمكن أن نتغاضى عن الديموقراطية الرهينة و حرية التعبير التي لا زالت ترزح تحت الكثير من القيود في بلاد الهان، وعن الفوارق الطبقية التي تعرفها المناطق كلها وعن الحزب الوحيد الذي يجثم على الساحة السياسية فيحكم ويعارض ويتخذ القرارات، لكن حسب رواية الصينيين فإن الوضع تقدم كثيرا عن ماكان عليه في الماضي القريب حيث كان الفقر و الظلم و الظلام والتخلف يسودون البلاد دون أن يتركوا ولو بقعة ضوء. الأمور في تحسن وذلك كل مايهم.
عشت في مدينة نانجينغ وزرت بكين و شانغهاي المدينة-العالم كما يسمونها التي تستضيف ملايين الأجانب وتجود عليهم بجمالها وروعتها وعظمة عمرانها.
خلال إقامتي هناك، تعلمت الكثير من الأشياء من الصينين الذين تعلو الطيبة وحسن الضيافة محياهم، علمت منهم أنهم يعملون بكد وجد لتشريف وتكريم أولئك الذين سقوا أرض الوطن بعرقهم و دمائهم.
تعلمت منهم كيف يحب الوطن وكيف يلزمنا التضحية من أجله وخدمته ولو أعطى ثماره بعد حين للأجيال القادمة. المهم أن يزهر ولو في فصول لاحقة.
إنسان بلا ذاكرة هو إنسان بلا حياة. وشعب بلا ذاكرة هو شعب بلا مستقبل.