عن الحوار ومعيقاته في مجتمعنا

سمير رب أسرة وأب لطفلين ، أيمن وندى، أيمن الابن البكر لا يمل من طرح الأسئلة ويستفسر عن كل شيء ولا ينقاد بسهولة ويسر إلى ما يطلبه والداه منه إن لم يفهم المغزى والفائدة من العمل، لكن سمير لا يحاور ابنه فهو يعتقد أنه لا يملك الوقت الكافي لذلك كما أنه يؤمن بأن الأبناء يتوجب عليهم طاعة الأباء دون أدنى اعتراض أو تساؤل أو تحاور، فالأباء دائما على صواب والأبناء يفتقدون للفهم والوعي ويجب عليهم تطبيق الأوامر و هذه هي الطريقة التي رباه والده بها وهو سيربي بها ابنه ليصبح رجلا صالحا مثله.
نتيجة لتصرف سمير هذا، أصبح ابنه أيمن عدوانيا يصرخ ويبكي ويثور على أدنى شيء، وقد تدنى مستواه الدراسي وأصبح عنيفا اتجاه زملائه ومدرسيه حيث أصبح العنف هي وسيلته الوحيدة للتعبير عن نفسه بعد أن حرم من الحوار والتعبير عن الرأي بشكل سليم داخل أسرته الصغيرة.

ليلى ومراد زوجان شابان، تعرفا على بعضهما في الجامعة وعاشا قصة حب أسطورية قبل أن يدخلا عش زوجية، لكن للأسف لم يمض على زواجهما الكثير ليقررا الطلاق، فالخلافات لم تفتأ تبرح منزلهما.
مراد يعتقد أنه رجل البيت ويجب على ليلى أن تنصاع لرأيه دون أدنى تردد أو تساؤل فالرجال دائما محقون ، بينما ليلى تؤمن بأن لديها وجهة نظرها الخاصة بها التي يجب على مراد أن ينصت إليها ويحترمها. و قد حاولت ليلى لمرات عديدة أن تفتح قنوات للحوار مع مراد، وذلك من أجل الوصول لحل مشترك لمشاكلهما العالقة لكن مراد كان يرفض التحاور ويغلق الموضوع، فكلمته لا يمكن أن تناقش. تراكمت المشاكل بينهما وكبرت الهوة واندثر الحب الذي جمعهما لتنتهي علاقتهما بالطلاق.

سمير، أيمن، ليلى ومراد أسماء مستعارة لأشخاص كثر وحقيقيون نصادفهم كل يوم ، تأثرت حياتهم سلبا نتيجة غياب ثقافة الحوار عن مجتمعاتنا العربية فتفاقمت مشاكلهم وأصبحت أكثر تعقيدا.

لكن ماذا نقصد بالحوار؟

الحوار هو “شكل خاص من الاتصال يسعى فيه المشاركون بشكل فعال لخلق مزيد من التفهم المتبادل والتبصر الأعمق”

فالهدف من الحوار هو تحصيل مستوى فهم موحد وعميق وأكثر شمولية بخصوص موضوع ما محل خلاف أو نقاش من أجل تمهيد الطريق لإيجاد حلول ناجعة ومرضية لجميع الأطراف المعنية، بصيغة أخرى، الحوار يمكننا من تشخيص الداء ونعلم أن التشخيص من أهم المراحل التي تسبق وصف الدواء الناجع، فأي خطأ في التشخيص سيؤدي بنا لوصف دواء أو حل لا يناسب الداء أو المشكل، لذا فيجب على التشخيص أن يكون دقيقا، شاملا،وعميقا.

لكن السؤال الذي يطرحه نفسه بشدة علينا هو لماذا غاب الحوار عن مجتمعنا؟

تتميز المجتمعات العربية بغياب إن لم نقل شبه انعدام الحوار بين أفرادها، كما رأينا في النماذج السابقة ويرجع ذلك لعدة أسباب ترجع لغياب المساواة وسيادة ثقافة العلوية. فالحوار يستلزم أخذا ورد، يستلزم طرح أسئلة والإنصات بعقل واع للأجوبة وهذا يستلزم أن يكون للمتحاورين نفس الوزن خلال عملية الحوار، لكن الأمر ليس صحيحا في مجتمعاتنا العربية، فوزن المحاور يتأثر بعوامل عدة نذكر منها :

أولا: السن :
نحن نعطي أهمية لآراء من هم أكبر سنا ونقلل من شأن من هم أقل سنا خصوصا داخل الأسرة، فالأطفال بالنسبة لنا عديمي الوعي والمعرفة لذلك لا جدوى من محاورتهم بل يجب إرغامهم على الإنصات للأوامر ومن تم تطبيقها، وهذا الأمر غير صحيح البتة ويعيق الحوار داخل الأسرة بين الأباء والأبناء. فللأطفال أيضا وجهة نظرهم الخاصة التي يجب الإنصات لها بوعي ومحاورتها بأسلوب موضوعي وعقلاني ، فكم من حكمة قيلت على لسان طفل.
باحترامنا لرأي أطفالنا نساهم في تربيتهم تربية صالحة تعتمد على الإقناع بالحسنى واحترام الآخر بعيدا عن العنف والقمع الشيء الذي سينعكس إيجابا على استقرارهم النفسي ويحفزهم على الإبداع ويغرس فيهم قيم التسامح والاحترام.
وللإشارة فإعطاء حق التعبير للصغير لا ينفي احترام الكبير وتوقيره، فالاحترام هنا متبادل بين الطرفين بغض النظر عن السن.

ثانيا: جنس المحاور

مجتمعاتنا العربية للأسف هي مجتمعات ذكورية من الطراز الأول حيث تعطي أهمية كبرى لما يقوله الرجال، فرأي المرأة ثانوي وتظل تابعة في رأيها للرجل وتحرم من حقها في التعبير عن رأيها و ما يختلج نفسها من أفكار ورؤى.
للأسف، يتم تبجيل رأي الرجل بينما رأي المرأة يتم تحقيره وتصنيفه في مستوى أدنى ويظهر هذا الشيء في المثل المغربي الذي يقول:” المرا شاورها ولا تاخذ بريها” أمثال شعبية تتوارثها أجيال وأجيال ليتم تطبيقها على أرض الواقع كما رأينا ذلك في مثال الزوجين الشابين ليلى ومراد، فرغم أن مراد شاب جامعي مثقف إلا أنه ظل متشبثا بموروث الأجداد وربط رجولته برأيه، فهو لم يكن يسمح لزوجته ليلى بمحاورته لأنه رجل ورأيه هو الصائب أما ليلى فلا رأي لها بل هي ملزمة بتبني وجهة نظره.
موروث ثقافي لاموضوعي، لا يعتمد على أي سند علمي أوديني وجب تجاوزه وإعطاء المرأة حقها في التعبير عن رأيها وأفكارها دون أدنى تحيز أو تحقير، فالنساء شقائق الرجال.

مقالات مرتبطة

ثالثا: المستوى الاجتماعي والثقافي:

تميل كفة الحوار دائما في مجتمعاتنا لمن هم أكثر ثقافة ويحتلون مركزا اجتماعيا مرموقا، فتتم إعطائهم فرصة أكبر للتعبير عن أرائهم بينما يتم قمع من هم أقل منهم مكانة اجتماعية وثقافية، وهذا الشيء يخالف مبدأ المساواة الذي يعتبر ركيزة أساسية للحوار و يقف حاجزا أمام حوار اجتماعي عميق يمهد لإيجاد حلول عادلة وناجعة للتحديات الاجتماعية التي تعيشها مجتمعاتنا.
الحوار الفعال والعميق، يعطي نفس الوزن لجميع الأطراف المتحاورة فكل إنسان بغض النظر عن مستواه الاجتماعي والثقافي يحمل بين جنباته فكرة أو رأي من حقه أن يعبر عنه، ومن واجبنا نحن أن ننصت له بعيدا عن ثقافة الاحتقار ومفهوم ” الحكرة” الذي ينخر في مجتمعاتنا ويولد إحساسا بالدنوية لدى العديد من فئات المجتمع الهشة التي ظل صوتها حبيس الصمت وفي طي النسيان وولد بداخلها حقدا دفينا للمجتمع نتيجة حرمانها من التعبير عن مشاكلها وآرائها بشكل حضاري وسلمي.
ومن هذا المنطلق وجب علينا إعطاء جميع أفراد المجتمع نفس الحق والوزن في التحاور والتعبير لنصل إلى تحقيق السلم الاجتماعي.

لماذا نحتاج للحوار في مجتمعاتنا؟

تمر مجتمعاتنا بتحديات عديدة على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، وينبثق عن هذه التحديات وجهات نظر مختلفة ومتضاربة ولا مجال لفهم وجهات النظر المختلفة وتقريبها وتحليلها تحليل موضوعيا إلا باعتماد الحوار الذي يرتكز على مبادئ التسامح والمساواة في التعبير عن الرأي والانفتاح وينبني على الثقة المتبادلة بين الطرفين وحسن النية في بناء مجتمع أفضل.

فكما نعلم، فلا وجود لشجرة بدون جذور، كذلك لا وجود لاختلاف رأي بدون أسباب، وهنا يأتي دور الحوار، فبتبني الحوار الفعال، يتجاوز المتحاورون نقاط الخلاف المرئية التي تطفو على السطح، ويبحرون في العمق باحثين عن الأسباب التي ترتكز عليها المعتقدات والرؤى ليتسنى لهم فهم المشكل من جذوره ودراسته من وجهات نظر مختلفة بعيدا عن المظاهر الخارجية الهشة، الشيء الذي يمكنهم من الفهم المتبادل للأسباب الحقيقية ليصبحوا أكثر تقبلا لإيجاد حل مشترك مرضي لجميع الأطراف.

لماذا نحتاج لمعرفة وفهم وجهات النظر المختلفة؟

مكعب الألوان

لنتصور مكعبا ضخما، كل جهة منه ملونة بلون معين مختلف عن لون الجهات الأخرى، ولنتصور أن كل واحدا منا يجلس أمام جهة معينة، فمن يجلس أمام الجهة الحمراء سيظن أن المكعب أحمر، ومن يجلس أمام الجهة الزرقاء سيظن أن المكعب أزرق، وهكذا…والكل سينادي بلون معين مختلف عن اللون الآخر وسيعتقد أن الآخر مخطأ وهو الوحيد على صواب.
وهذا ما يحصل أمام كل موضوع محل خلاف، فكل له زاوية خاصة على حسب ثقافته وبلده ومستواه الاجتماعي والمادي، وباختلاف الزوايا تختلف الأراء وتتضارب .
وهنا يأتي دور الحوار الفعال والعميق، حيث يمكننا هذا الأخير من اكتشاف الزوايا المتعددة للمشكل الواحد ويسمح لنا بتوسيع دائرة تفكيرنا لنستوعب وجهات نظر مختلفة ونكتشف آفاقا جديدة ونفكر خارج الصندوق المغلق الذي صنعناه بأيدينا وحبسنا فيه أنفسنا.

فالحوار هو وسيلتنا كأفراد للانفتاح على عوامل أوسع وأشمل وتوسيع مداركنا ،والإبحار في محيطات الفكر واستكشاف جوهر الأشياء بعيدا عن المظاهر الخارجية الخداعة.
كأفراد، الحوار لا يمكننا من اكتشاف الآخر فقط، بل يجعلنا نتعرف على أنفسنا أكثر،

وهو وسيلتنا لكمجتمعات لإيجاد حل دائم وناجع ومرضي لجميع فئات المجتمع وتجاوز التحديات الاجتماعية المستمرة التي تواجهنا كل يوم وتعيق تقدمنا ورفاهيتنا كمجتمعات في طور التنمية.

وهو وسيلتنا كدول لتحقيق السلم العالمي الدائم وفهم وتجاوز نقاط الخلاف التي تمزق شعوبا عدة على وجه هذا الكوكب الأرزق الغارق في دماء أبنائه.

وأخيرا قرائي الأعزاء، أهلا بكم على متن سفينة الحوار التي ستمضون على متنها رحلة ممتعة ، ستعرفكم على أنفسكم أكثر وستمكنكم من اكتشاف عوالم جديدة وآفاق واسعة، ونصيحتي لكم أن لا تتخلفوا عن رحلة الحوار، وأن تجعلوا من الحوار أداة حاضرة في حياتكم لا تفارقكم أينما حللتم أو ارتحلتم.

المصادر:
تعريف الحوار مقتبس من دليل الحوار للكاتبة ميت ليندرجون هيلد الصادر عن مجلس الشباب الدنماركي والمركز الدنماركي لحل النزاعات.