فعالية الغرب

1٬427
في نورمبرغ المحطة الأولى لي في ألمانيا التي كان اسمها يومذاك الغربية، فأخذت الانطباع الأول ولم أنسه بقية العمر. كانت ظاهرة السكون المريح للأعصاب. كان شكل المطار أنيقاً نظيفاً منظماً وهادئاً يشرف عليه عمال تقرأ في وجوههم الكرامة قبل النظافة. عرفت أنني فارقت حضارة الضجة والوسخ والفوضى، واستقبلت حضارة النظافة والهدوء والتنظيم.
منذ اللحظة الأولى بين بيروت ونورمبرغ مكان ولادة الحزب النازي، اكتشفت أنني في مدى ثلاث ساعات بالطائرة كنت أخترق الجغرافيا فقط، وكان علي ثلاث سنوات لاختراق حاجب اللغة، ولكن ثلاثين سنة لأتكفي للفهم العميق للثقافة التي مازلت أنحت في جدارها الصلد حتى الآن.
الحضارة الغربية لا تحتاج مثلي ليدافع عنها فهي التي تقود العالم شئنا أم أبينا، سواء في جناحها الأنجلو-سكسوني أو اللاتيني أو حتى الأصفر الياباني، الذي هو امتداد هذه الحضارة للشرق الأقصى، ثم إن الحضارة الغربية تمشي بدفعة قوية من الأخلاقيات والقيم، ويجب أن يتم الانتباه إلى العنصر الأخير، كي نصحو من أوهامنا وأحلام اليقظة التي نسبح فيها. إنني كنت شاهداً في الحضارة الغربية ولم أكن زائراً حتى أكتب أمريكا التي رأيت بل عاينت القوم، وأزعم لنفسي معرفة زخم الحياة عندهم، وطرفاً من أسرار قوتهم، كما أعرف بالضبط أمراض الشرق ومصائبه، فأنا والذين عاشوا في الغرب فترة طويلة أصيبوا بحالة لا يحسدون عليها، فلم يعد الشرق يعجبهم، كما أن الغرب لم يسعدهم، فهم نفسياً في الأرض التي لا اسم لها. والسبب أنهم عرفوا الشرق والغرب، وبذا أصبحت أداة النقد والمقارنة عندهم حادة قاطعة، والرؤيا عندهم واضحة مبلورة، وهذه لا يصل إليها إلا من استطاع أن يخبر الشرق والغرب، ونحن الذين أدينا وظيفة الشهادة علينا أن ندلي بشهادتنا في محكمة التاريخ. وبأمانة، فلا شيء أعظم من العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض.
إنني يجب أن أعترف بغض النظر عن بعض الحساسيات التي هي طبيعية، والمشاعر النفسية التي ليست حكماً نهائياً ولا عدلاً في مثل هذه الأمور، أننا استفدنا بل دُهشنا لحزمةٍ من الأخلاقيات والقيم التي تمسك بمجتمعهم، وتعطيه فضيلة القوة والتفوق، وهو ما لاحظته البعثات الأولى من العالم العربي التي أرادت اكتشاف الغرب كما حدث مع رفاعة الطهطاوي الذي وضع كتابه الهام في هذه القيم الإيجابية التي نتحدث عنها “الذهب الإبريز في أخلاق أهل باريز”.
إنني أذكر هذه الملاحظات بشيء من الألم؛ لأنني أنتمي إليها، مع شعوري الذي لا يختلج بعظمة وروعة الحضارة التي خرجت منها، وإمكانياتها غير المحدودة في استيعاب إعصار الحداثة. هذا الشعور سبب لي الألم مرتين فأنا أدين الثقافة التي خرجت منها، وهذا أنفنا فهو كبير مثل أنف سيرانو دي بيرجاك، في الوقت الذي أزكي في جانب مزية من هم خصومنا أو من لا يحبونا على أقل تقدير، ولكن هذا ما تتطلبه الشهادة التاريخية ويوجبه العدل، ونحتاجه كي نستيقظ ونصلح أمورنا التي لا تحتمل التأجيل، وكانت الملاحظة الثانية لا شيء في الأرض، وتذكرت الحديث وإماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، ثم توالت الملاحظات حتى شكلت تياراً كبيراً وبانوراما ضخمة وخريطة تفصيلية، إلى درجة أنني أعرف ارتكاساتهم وتصرفاتهم سلفاً، فيما لو واجهوا أي مشكلة لحلها، وكيف أن عندهم منهجاً خاصاً في التصرف في النائبات.
يصدق هذا على الألمان كما يصدق على الأوربيين يزيد وينقص، خاصة كلما صعدت إلى الشمال ومِلت إلى الوسط البرتستانتي، ففيهم باقة من الأخلاقيات والقيم التي نحن بأمس الحاجة لها، سواء بتأملها لإعادة صنعها أو بنحتها وتوليدها من ثقافتنا المليئة بالقيم الإيجابية، وإعادة اكتشافها بعد صدمة الغيبوبة التاريخية التي مُني بها العالم الإسلامي في فترة القرون الفارطة الأخيرة، كما هو الحال في نظافة الشوارع والبيوت والمحلات العامة، دورات المياه العامة والموجودة على الطرقات السريعة عندهم نظيفة بشكل ملفت للنظر. هذه النظافة ليست الحكومة فقط وراءها، وإنما هو القانون الأخلاقي والتربية الصارمة، والتثقيف المستمر، والتنبيه الدائم، وتعاون الدولة والمؤسسات والفرد.
يقول جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي عن القانون الرابع: “يضاف إلى هذه الأنواع الثلاثة من القوانين نوع رابع وهو أهمها جميعاً، وهو القانون الذي لا ينقش على الرخام ولا على البرونز وإنما في قلوب المواطنين، والذي يصنع تكوين الدولة الحقيقي، والذي يكتسب كل يوم قوى جديدة؛ والذي عندما تشيخ القوانين الأخرى أو تنطفئ، يحرك أوارها أو يتممها، ويحافظ على شعب في روح نظامه، ويحل قوة العادة شيئاً محل قوة السلطة. وأعني بذلك الطباع والعادات وعلى الأخص الرأي العام، وهو فرع مجهول لدى ساستنا، لكن نجاح جميع القوانين الأخرى يتعلق به: ذلك هو الفرع الذي يهتم به المشرع العظيم في السر، في حين يبدو أنه لا يهتم إلا بتنظيمات خاصة، إلا أنها في الواقع ليست سوى عقد القنطرة الذي تشكل فيه الطباع، الأكثر بطئاً في نشوئها، مفتاحه الذي لايتزعزع.
كان مارأيناه هو النظام والانضباط في دقة الساعة، والدقة بحب وشغف، والمثابرة بجلد لا يعرف الملل، والتعاون والعمل بروح الفريق ولو بدون حب أحيانا بين عناصره، واليقظة التي تلمحها في العيون وسرعة الحركة والسهر على المصالح، والنطق بهدوء وبدقة وبمسؤولية، والنظر في وجه السائل، والمحافظة على الموعد إلى درجة الهوس، والالتزام ومعرفة معنى المسؤولية، والصدق فهو أنفع للمعاملات والحجز وسواه، واحترام الآخر ولو كان طفلاً أو من الشرائح الاجتماعية المستضعفة، والفعَّالية في معالجة المشاكل، والبيروقراطية الميسرة، فالمعاملات تمشي على شريط كهربائي لا يقف، فلا تحتاج لملاحقة ومتابعة في كل مرحلة كي لا تموت في أحد الأدراج، وعدم الخوف من مراجعة أي مسؤول من شرطة وسواه، وهذه الكومة من القيم تحتاج إلى تفصيص ميداني كي يتم تأمل كل واحدة بشكل مستقل. والشيء المهم فيها كان بروزها في المجتمع، فشكلت ظاهرة اجتماعية، وتياراً مسيطراً هادراً وليست حوادث فردية، فالجد والاجتهاد والنشاط والحركة يغلف المجتمع كله، وتهبه اللون الخاص به، وتعطيه موسيقاه المنعشة لأفراده المتهادين على وقعه.
هل نريد الآن أن نفهم الأخلاق والقيم السرطانية في مجتمعنا؟ لابد من تعريف السرطان البيولوجي إذاً؟ إن السرطان هو إعلان التمرد العام على نظام الجسم، وهو في صورة ثانية الخلل الوظيفي الزماني المكاني، فالخلية المجنونة تتكاثر بدون هدف إلا عربدتها الخاصة، وهي تترك مكانها لتحتل بغير جدارة مكانا خاصاً بآخرين، وهي تنمو بسرعتها الخاصة مثل نشاز اللحن خلال لحن البدن البديع، وهكذا فمن كانت مهمته البناء يتجه للتدمير كما في سرطان العظام، والخلايا المخصصة لجمال الوجه تتحول إلى فقاعات ورمية سوداء بشعة سرطان الجلد، وخلايا الأمعاء تترك مكانها لتنزل ضيفاً غير مرحب به في الكبد والرئة بل والدماغ سرطان الكولون.
ولنذكر تماماً أن ضياع المجتمعات يحدث أيضاً بنفس الطريقة؛ فالسرطان الاجتماعي الذي يأكلها عندما تضيع المسؤوليات، ويشذ الناس على القانون. إن كثرة الخلايا بلا معنى هادف يجعل البدن فاقداً لهدف الحياة ويصبح بلا معنى، وجرت القاعدة أن الذي يفقد هدفه في الحياة حل به الفناء لإنه أصبح معادلاً للفناء، أو هو يسير نحو الفناء لأنه فقد مبرر الحياة، وهكذا فإن السرطان هو تعبير عن فقد مبرر الحياة بفقد هدف الحياة. ويجب أن نعلم أنه كما يموت الأفراد تموت الجماعات، وتدول الدول وتفنى الأمم وتنقرض الحضارات فـ {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}
ورد في الحديث من سأل عن الساعة فكان جواب نبي الرحمة كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الساعة: «إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة». بكلمة مختصرة، نهاية الأمم واندثار الحضارات وتفكك الدول وتحلل الإمبراطوريات.