لا يخفى أن مقدار الحاجة إلى الشيء تكون هي السبيل الأمثل والوسيلة الأولى للعناية به وجعله في قمة الأولويات ابتكاراً وتطويراً؛ ومن ثم كانت المقولة الشهيرة “الحاجة أم الاختراع”.
قد لا نبعد عن الصواب إذا قلنا بأن الحاجة كذلك “روحُ البقاء”
فمهما طال أمد الشيء وتطاول به العمر وامتدت به الأيام، فإن الفناء يطاله بمجرد ظهور بديلٍ عنه أحسن وأكثر فائدة.
وإن التمسك بحبال الأجداد البالية، وحكاياتهم وعبقرياتهم الفذة لا تزيد على الواقع شيئاً ولا تضيف جديداً يذكر.
ولا يعدو الأمر أن يكون شبيهاً بتمسك شعوب القبائل في البوادي النائية بطرق العيش القديمةِ في الزراعة والحصاد وروتين الحياة تعصباً وحنيناً للأجداد والأيام الخوالي، ثم لا شيء بعدُ سوى أن يأتي المد الحضاري الكاسح فيْنسِف كل شيء ولا يبقي ولا يذر.
وإن اللغة قبل كل شيء هوِّية تقع بمنزلة الروح في الشعوب، وما أصيب شعب في لغته إلا أصيب في مَقْتَلٍ.
ومشكل الحضارة يكون دائماً مركباً ومتشابكاً لا يقوم منه جزء مقام باقي الأجزاء، كما لا يقوم الجسم الصحيح إلا بسلامة كل الأعضاء في ذات الحين.
فمشكلة اللغة اليوم عند الشعوب العربية ليست سوى جزء صغير من المشكل المركب بداية بالمشكلات الدينية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية… وهلم جرا.
والحضارة التي لا تنتج “الْمُسَمَّيَاتِ” لن تنتج بطبيعة الحال “الأسْمَاء”، ولن يُلام ناشئة اليوم بتركهم للغةٍ لا تُفرض عليهم في التخصصات العلمية والآفاق المعرفية ولا في تشغيل الحواسيب والآلات المعقدة، ولن تعدو دراستها بالنسبة إليهم إلا أن تكون ضرباً من “التصوف المعرفي”!
أما كيلُ الشتم واللعنات لمد التغريب ومساعيه في محو الحرف العربي، فهو في الكثير من أشكاله ضرب من صرخة المهزوم وذر للرماد في العيون!
فالحضارات في كل زمان ومكان إنما تقوم بالاحتكاك والصراع، وكل يسعى لينشر ثقافته وفكره على أطول رقعة وبشتى الوسائل.
ولعل هذا النص الذي كتبه “ألفارو القرطبي” أحد المسيحيين الإسبان في وثيقة هامة سنة 854 م، إبَّان العصور الذهبية للحضارة العربية الإسلامية خير مرآة لحاضر المجتمع العربي اليوم، يقول : “…يطرب إخواني المسيحيون بأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة والمحمديين لا لتفنيدها، بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق. فأين تجد اليوم من يقرأ التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل؟ واأسفاه! إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب، ليسوا على علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية، فهم يقرأون كتب العرب ويدرسونها بلهف وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة، وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب. وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون في زراية إذا ذكرت الكتب المسيحية بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم. فوا حر قلباه! لقد نسي المسيحيون لغتهم، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف قادر على إنشاء رسالة إلى صديق بلاتينية مستقيمة! ولكن إذا استدعى الأمر كتابة بالعربية، فكم منهم يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة، بل قد يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم.” (اهـ)
ويكفي هنا أن تبدل كلمة (مسيحي) بـ (عربي) و (الإنجيل) بـ (القرآن) لتكتمل الصورة على ما هي عليه اليوم.
فمن الخطأ الفادح أن يُنحى باللائمة على المؤسسات العلمية أو المراكز اللغوية وحدها في هذا السياق، لأن المشكل يتجاوز إمكاناتها بمسافات ضوئية، ولن يكون البحر حلواً بقطعة من السكر!
والمتبع للشأن اللغوي العربي اليوم بين أهل الدار “أهل التخصص” يلاحظ أنهم انقسموا إلى معسكرين مختلفين، أو من كانوا يسمون في السياق عصر النهضة بأنصار القديم وأنصار الجديد:
ـ فأنصار القديم فئة أبت إلا أن تنغمس من أخمصها إلى قدمها في حفظ كلام مضت عليه قرون غابرة، من منظوم ومنثور وقصص وحكايا هي أشبه ما تكون بأساطير اليونان؛ فهي فئة تكاد تكون خارج حدود الزمن، بل تضفي على عملها هذا صبغة من القداسة والبعد الديني، تجعله تُرْساً تحمله في وجه كل نقد أو نقاش.
ـ وأنصار الجديد في الضفة المقابلة ـ وهم الأكثر عدداً ومَدَداًـ فئة ترمي إلى دفن كل الموروث اللغوي القديم، وطيه في صحراء النسيان وبدء صفحة جديدة لن تكون طبعاً من الفراغ بل من موروث المعسكر الغربي!
لن نجر ذيول الكلام هنا بالوقوف على أطلال العربية، ولا بسرد خلالها وميزاتها وأساليبها، ومدى صبغتها القدسية باعتبارها لغة للقرآن الكريم، فذلك في الأخير لا يعدو أن يكون، وقوفاً على الأطلال وبكاء على قبور الأجداد.
كما لن نسرد الأرقام والإحصاءات عن مرتبة اللغة العربية بين اللغات ولا مشكلات الترجمة والمترجمين والميزانيات الهزيلة التي تخصص لها في كافة الدول العربية … فذاك مما يندى له الجبين!
ويكفي هنا أن نزيح الفهم المغلوط بأن العرب وحدهم من يربط اللغة بالدين وتعاليم السماء، فهذا المؤرخ الفيلسوف ويل ديورانت؛ هذا الرجل الذي حياته بالبحث في تاريخ الحضارات العالمية يقول ما مضمونه: أن الكتاب الأفذاذ والفلاسفة الكبار غالباً ما كانوا من خريجي المؤسسات الدينية والكتب اللاهوتية، لأن الدين أقوى عامل في اللغة يجعلها تقاوم عناصر الطبيعة وتصارع آفات الفناء…
كما يذكر أن أبا الإلحاد في العصر الحديث “نيتشه” كان في صباه يتلو الكتاب المقدس على الناس في الكنيسة حتى تبتل خدودهم بالدموع لجودة نطقه وصوته الشجي.
وقد ذكر المترجمون أن الأديب المسيحي “ناصيف اليازجي” حفظ القرآن الكريم فقط لغرض التمكن من البيان والاسلوب!