في زيارة لابن خلدون

1٬551

لعل أكثر من شغفني بالسفر هو أمي, فما أذكر منذ نعومة أظافري أنها تركت حولا يمر دون أن ترتد على واحدة من بلدانها المفضلة والتي تترأس تركيا قائمتها، فقد كانت أول تجربة لي في ذلك البلد الغني تاريخيا وحضاريا. كان هدف الرحلة التطوع مع مجموعة شباب من كل حدب وصوب، كنت أنتظر بشدة وصول المساء للاجتماع وتبادل المعلومات حول بلدان كل منا، فوعدتهم أني سأزورهم واحدا واحدا حالما تسنح لي الفرصة.

كانت الفرصة الأولى من نصيب تونس، ولعل أكثر ما كان يجذبني إليها هو العلامة ابن خلدون فقد كنت أجيب كل من يسألني عن وجهتي فأقول في زيارة لابن خلدون. ها هو ذا يقف شامخ الرأس في شارع الرئيس الحبيب بورقيبة، الذي أمر ببناء ذاك الرمز التذكاري تخليدا لأعماله العظيمة التي جمعت بين التاريخ وعلم الاجتماع والشريعة والطب وغيرها، وها أنا أبتعد ببعض الخطوات لأدخل باب البحر، المدخل الرئيسي للمدينة العتيقة والذي يرجع السبب لتسميته كذلك لانفتاحه في اتجاه بحيرة تونس، يسافر بك المكان إلى الزمن الجميل، حيث الأزقة الضيقة والوجوه المبتسمة والأغاني الصادحة من التراث التونسي، تطربك وأنت تمر بجوار المقاهي الشعبية تتخللها أصوات دق النحاسين التي ترشدك إليهم من بعيد، لتجد نفسك في متاهة بين مجموعة من الأسواق المحيطة بجامع الزيتونة الذي شيده الأمير المجاهد الماهر حسان بن النعمان.

أدخل الجامع، فإذا بمخيلتي تسترجع ذكريات كاذبة، مشاهد لم أعشها قط، لكن تحسسني أني كنت هناك، ففي تلك الزاوية رأيتني أشاهد ابن خلدون مختليا غارقا في كتاباته، أزيح نظري فأرقب حلقات لمجالس العلم، هذه للفقه والحديث، وتلك للنحو، وأخرى لشتى العلوم، ما علمت منها وما لم أعلم… جذبني لاحقا التشابه الكبير بين مسجد الزيتونة ومسجد القيروان الكبير الذي بناه والي أفريقيا عقبة بن نافع، فلم ألبث أن علمت أن حسان بن النعمان أعاد بناءه فاستخلصت سر التماثل الكبير الذي لم يكن عمرانيا فقط، بل كانت القيروان أولى المراكز العلمية وكان الجامع جامعا لعلوم الدين ومقرا لنشرها…

كفى أهل القيروان عزا بأرضهم، فقد قال أبو القاسم الشابي:

فهل للقيروان وساكنيـــــــــها *** عديــل حين يفتخر الفخــور
بلاد حشوها علم وحلــــــــــم  *** وإســــلام ومعروف وخير فعلا

بلاد اتسمت بالحلم وأشعت بالعلم، فجذبت إليها وفدا من الصحابة والتابعين والعلماء ليقتبسوا من نورها فزادتهم نورا ساروا به وأشعوا به كل بقعة ارتحلوا إليها، ومساجد اتسمت بالصمود رغم مرور أكثر من 1300 سنة على تشييدها، شهدت تعاقب حضارات وتخرج شخصيات بقي أثرها ليومنا هذا، فحافظت على رونقها وحسن مظهرها وهمتها وشموخ صوامعها التي تلوح لك من بعيد كأنها تخبرك بماض تعتز وتتشبت به.