في ضيافة الدالاي لاما..

2٬034
بعد توقفٍ لمدة يسيرةٍ، أعود إلى استكمال نشر مقالاتٍ حول ما سميته بـ “الحوارات الهندية”، والتي أضمِّنُها مجموعةً من الحوارات التي خضتها مع أشخاص من ديانات وثقافات مختلفة، إما من الزوار والوافدين أو السكان الأصليين للهند، والذين التقيتهم في زيارة سابقة لي إلى هذا البلد الغني بالثقافات، هذه الزيارة التي سبق أن تحدثتُ عن تفاصيلها. وقد تم بحمد الله في نهاية الأسبوع الماضي عرض فيلم وثائقي بعنوان: معاني من الهند، وكان حدثا ناجحا بكل المقاييس. حتى يمكننا القول: إنه أهم نشاط تقوم وتنظمه “معاني” هذا العام.
وهذا المقال سأخصصه لزيارتي إلى قرية ماكليود غانج، والتي زرتُها مباشرة بعد انتهاء زيارتي لمدينة ريشيكيش الرائعة، والتي تحدثت عنها في مقالة منشورة على موقع معاني بعنوان: “يوم حططنا الرحال بمدينة الموت”. وقرية ماكليود غانج هذه تعتبر معقل البوذية في الهند، وهي محل إقامة “الدالاي لاما”، القائد الديني الأول للبوذيين في إقليم التبت، وهو إقليم يحظى بالحكم الذاتي، ويتبع الجمهورية الصينية.
ويذكر الناس هنا أنه في سنة ١٩٥، احتلت الصين منطقة التيبت، فكان على قداسة الدالاي لاما أن يفر منها، وفر معه الكثير من أتباعه إلى الهند، واستقروا في “دارجلين” و”ماسوري” في جهة الشمال الشرقية، وعلى إثر ذلك منحت الحكومة الهندية للاجئين التيبتيين قرية بأكملها، وهو المكان الذي اخترنا أن نسافر إليه، أعني قرية “ماكليود غانج” في “دارامشالا”، معقل البوذية في الهند، وأحسن مكان للتعرف على هذه الديانة، والعيش وسط رهبان البوذية واللاجئين من التيبت. نعم، هناك الكثير من المستوطنات التيبتية، وفرتها الحكومة الهندية بكثير من الكرم واللطف، لكن أبرزها وأهمها هو المكان الذي نحن فيه الآن، هنا حيث يوجد معبد الدالاي لاما الكبير، وهنا حيث نطل على الهيمالايا، وحيث نشم رائحة التيبت أو بلد الثلج؛ نأكل مما يأكل التيبتيون، ونتجاذب معهم أطراف الحديث.
كان أول ما قمنا به بعد وصولنا إلى ماكليود گانج هو زيارة مركزٍ للاجئين، وذلك في محاولة لفهم التركيبة الاجتماعية لهذه المدينة المكونة خصوصا من التيبتين، وأيضا لكي نأخذ فكرة عما يمكننا فعله ليومين أو ثلاثة سنقيمها هنا. سألنا عن مدير المركز فوجدناه شابا تيبتيا ظريفا، يتقن اللغة الإنجليزية، استقبلنا بحفاوة، ودار بيننا هذا الحوار:
-أهلا بكم! شكرا لزيارتكم هذا المركز، سعداء باستضافتكم.
-شكرا لك، هذه أول محطة لنا في ماكليود گانج.
-مرحبا بكم، يأتينا الكثير من السياح بشكل دوري، ونحن نسعد دوما باستقبالهم، مرحبا بكم.
-نحن في رحلة لثلاثة أسابيع لاكتشاف الهند، ونعد فيلما وثائقيا عن هذه الزيارة. وقد سمعنا أن هذا المكان أحسنُ مكان يمكننا زيارته لاكتشاف البوذية، والتعرف على التيبتيين، والتجول قليلا في بعض أجزاء الهيمالايا!
-نعم صحيح، الديانة الأساسية لـ 98-95% من التبيتيين هي البوذية،
وأغلب الرهبان والراهبات يقضون يومهم ووقتهم في دراسة البوذية خاصة، ويتعلمون اللغات المختلفة كالانجليزية والصينية والفرنسية والألمانية. ومركزنا هذا يرتاده تلامذة كثر، لاسيما من الرهبان والراهبات، يأتون إلى هنا لتعلم الإنجليزية والصينية والألمانية والفرنسية. ونحن نبحث بشكل دائم على متطوعين، يستطيعون الالتزام معنا لمدة طويلة، وغالبا ما يبقى المتطوعون هنا من شهر إلى ثلاثة أشهر فأكثر، قليلون هم مَن يغادرون بعد مدة قصيرة، وأحيانا يستمر بعضهم معنا إلى حدود ستة أشهر.
-يعني أن النازلين المتطوعين للتدريس في مركزكم يبقون هنا لمدة ستة أشهر، صحيح؟
-نعم، يمكثون هنا ويُدرّسون الثقافة واللغة التيبتية واللغات الأجنبية، يبقون لمدة ستة أشهر أحيانا، ولكن الذي يتكرر بشكل معتاد أنهم يبقون لمدة ثلاثة أشهر.
-وما هي الجنسيات التي ينحدرون منها غالبا؟
-يأتون من بلدان كثيرة، منها الولايات المتحدة، ألمانيا، إيطاليا وغيرها من بلدان أوروبا، وأحيانا من التايوان والصين. لكن معلمي اللغة الصينية لا يمكثون هنا إلا شهرا أو شهرين، يدرسون فيها اللغة الصينية ثم يغادرون.
حين كنت طالبا هنا في المدرسة، كانت لي أحلام عديدة، كنتُ أريد أن أكون طبيبا أو مهندسا أو سائق طيارة أو رئيسا لبلدي؛ كان هذا في أيام الدراسة الأولى، ولكن بعد التحاقي بالجامعة بدأت أعي أشياء كثيرة، ثم اكتشفت أنني شغوف بالقراءة والتدريس، أصبحتُ أحب التدريس. ومنذ ذلك الحين، تغيرت طموحاتي، أردتُ أن أصبح أستاذا، أستاذا جيدا يؤثر إيجابا في حياة طلابه، بل يعينهم على تبصُّر واقعهم والتكيف مع محيطهم، ومساعدتهم على رسم خطة واضحة لأهدافهم، وإرشادهم إلى سبل تحقيقها، هذا أهم شيء في حياتي، أن أكون أستاذا بارعا.
-جميل جدا، لكن حدِّثنا قليلا عن البوذية!
-حسنا. ظهرت البوذية في التيبت في القرن السابع الميلادي، وتعرّض هذا الدين لكارثة كبيرة إبان الغزو الصيني، وما تلى ذلك من الاحتلال السياسي وقمعٍ واضطهاد لأهالي التيبت. وبسبب ذلك، اختار التيبتيون الهند ملجأ لهم، للقرب الجغرافي من جهة، ولأن هناك ارتباطا كبيرا بين البوذية التبتية والهند من جهة ثانية؛ إذ في الهند عاش بوذا وواصل الاستنارة، وعبرها انتقلت البوذية إلى التيبت. فنحن نرجع إلى الهند ونحج إليها مثل ما تفعلون أنتم مع المدينة التي عاش فيها نبيكم. التيبتيون يعتبرون الهند “الأرض المقدسة” مع أن البوذية اختفت فيها تقريبا.

-وما هو أهم ما تؤمنون به مما يساعدكم في أن تعيشوا حياة طيبة؟
-نحن نؤمن بأن الحياة معاناة، وبأن المعاناة تأتي من التعلق بالرغبات، وأن الإنسان يمكنه أن ينهي كل معاناته بالتخلي عن كل ما يتعلق به، ولكي لا يتعلق بشيء عليه أن يتبع تعاليم بوذا.
-محاولة التخلص من المعاناة هو في جوهره بحثٌ عن السعادة، فما هي السعادة إذن بالنسبة لك؟
-السعادة، بصفة عامة، هي مبتغى وغاية جميع الكائنات الحية العاقلة، فلا أحدَ منها يتمنى العذاب أو المعاناة لنفسه، بل الكل يريد أن يعيش في سعادة. وأنا شخصيا أكملت تعليمي في الجامعة للحصول على الشهادة؛ لأن الحصول على شهادة جامعية جيدة يخول لي المشاركة في مبارايات التشغيل، والحصول على عمل جيد يعينني على تلبية احتياجاتي ومساعدة الآخرين. إن أسعد لحظاتِ حياتي حين أكون في خدمة حشد كبير من الناس، وحين أكون بالقرب من الأصدقاء. التصوير يساهم إلى حد ما في تكوين سعادتي أيضا، فهو هواية أحبها كثيرا، كما أنني أتجول إن كان لدي متسع من الوقت، وأسافر وألتقط صورا وأقرأ؛ هذه مصادر البهجة والسعادة في حياتي حاليا، ولا أنسى أيضا سعادتي حين أدرّس في الفصل، وحين يتعلم طلابي وأرى بعيني كيف أنهم يتطورون بشكل ملحوظ، حينها أحس بلذة وسعادة داخلية غامرة.
-أشرتَ إلى أنك كنت تحاول الحصول على عمل جيد يوفر لك دخلا تستعين به في قضاء حوائجك ومساعدة الآخرين، كيف تنظر إلى الفقر والغنى إذن؟ هل الغنى شيء ضروري طالما أنه لا يمكن مساعدتي الآخرين إلا إذا كان لديك مال تقدمه لهم؟
– في الواقع، الغنى والفقر أمران اعتباريان ونسبيان جدا، بل ومشروطان بالأشخاص، فهناك من يظن أنه اغتنى حين يحصل على نقود كثيرة، و هناك من يحس بذلك حين تُحترَم أعرافُه، وحين يستطيع أن يطبق العلمَ الذي تعلمه، وأحيانا لا يعدو الفقر والغنى أن يكونا مسألة نزعة ذهنية؛ هناك من يتمتع بحال من السكينة حتى وإن كان لا يحصل إلا على مرتب بسيط، لكنك تجده سعيدا للغاية. تستطيع أن تقول: إن الغنى هو بالأساس استعداد ذهني. وقد قرأت قصصا كثيرة عن مليارديرات لا ينامون إلا بعد أن يأخذوا حبوبا منومة؛ نعم هم فاحشوا الثراء، لكنهم يحتاجون حبوبا منومة ليرتاحوا. الغنى والفقر عقلية قبل كل شيء.
-شكرا لك جزيل الشكر على إجاباتك الرائعة.
-شكرا، ومرحبا بكم في أي وقت شئتم، ولأي مساعدة تحتاجون.

بعد هذا الحوار القصير، وجدتُ أنه من الضروري أن أشرع في القراءة ولو قليلا عن الديانة البوذية؛ لأن هذا يعينني في استثمار حواراتي مع هؤلاء البوذيين، وهو ما حصل فعلا، إذ قرأت الكثير عن البوذية، وقد فهمت أنها خرجت من صلب الهندوسية، بل إنها جاءت لتصحّح بعض مفاهيمها. وهذه سيرورة الأديان عادة، يأتي دين لاحق ليتمم دينا سابقا. والتتميم هنا لا يحصل إلا بأخذ بعض العقائد السابقة وطرح بعضها أو نسخها كما يقال.
من الأشياء التي فاجأتني في زيارة هذه القرية اكتشافي أن الكثير من الأوروبيين والأمريكيين يقيمون في هذه القرية الصغيرة، التي تعج بالمعابد البوذية، تحولوا إلى البوذية وجعلوها منهجًا لحياتهم، وانتقلوا إلى هنا للاستقرار في هذا الحرم البوذي، في شيء يشبه ما نسميه بـ “الهجرة” عندنا، التضحية بالمال والأهل والعائلة والانتماء الوطني وتذهب إلى مكان بعيد جدا، لتعيش حيث يعيش زعيم ديني؛ قرار خطير يعبر عن عمق الإيمان الذي يتملّك صاحبه.
معظم اللحظات في يومنا الأول في هذه القرية قضيناها في التأمل في طريقة صلاة الرهبان البوذيين في معبد “الدالاي لاما”، وكيفية تعاملهم مع بعضهم البعض. دلم يتحدث إلينا أحد، ونحن نتجول في المعبد بألبسة مدنية مختلفة عن لباسهم الديني الأحمر الموحد، ولم يلتفت إلينا أحد، وكأننا كائنات غير مرئية. بعد ذلك قمنا بجولة بواسطة الدراجة النارية في الطرق المعبدة الملتوية حول بداية جبال الهمالايا، كنا نريد الصعود إلى قمةٍ تطل على القرية بأكملها، وفي طريقنا دخلنا إلى وكالةٍ للأسفار، وقد اقترحت علينا خرجات ليومين أو ثلاث وسط جبال الهمالايا. وكنت معجبا بشدة بثقافة وفلسفة المرشد السياحي لهذه الوكالة، والذي جمعنا به هذا الحوار:
-قل لنا: من أنت؟
-حسنا، أنا ابن هذه المنطقة، واسمي “برك سادو”، وحاليا أعمل مع وكالة للأسفار، وأنحدر من السكان الأصليين لهذه المنطقة، من قبيلة جبلية تدعى “الكادي”، وهي واحدة من تسعِ قبائل أصلية في ولاية “هيماشال براديش”.
-وهل تعيش هنا في ماكليود غانج؟
-نعم أعيش هنا في هذه القرية، وهي مسقط رأسي.
-ما الذي يتميز به العيش في هذه القرية؟
-ماكليود غانج مليئة بالحيوية، يأتي إليها عدد لا يحصى من الناس من كل بقاع العالم، ولا أحتاج لإنفاق أي نقود للسفر إلى أي مكان، أرى العالم كله هنا، وألتقي بأناس من كل أنحاء وثقافات العالم، نتشارك أشياء كثيرة، ونتبادل أفكارا ممتعة عن ثقافاتنا؛ إنه سلسلة من أخذ وعطاء لا مثيل له.
-جميل، نحن هنا لثلاثة أسابيع، وكل مدينة زرناها كانت لها خصوصيتها المميزة؛ فاراناسي عاصمة الهندوسية، في “أكرا” يوجد هناك قصر تاج محل الجميل، “دلهي” مكتظة جدا بالسكان، و”جاييور” المدينة الوردية، راجستان رائعة هي الأخرى…فبماذا تختص هذه المنطقة؟
-منطقتنا هذه لها خاصيات استثنائية، لسببين أساسيين أو ثلاثة.
-أولا: أنها تقع في الهيمالايا، وهي التي تتبوأ مكانة متميزة جدا في العالم كله؛ إذ اجتمع فيها جمال الأرض بأسره، ونعتبر أنفسنا جزءا لا يتجزء من هذه الجبال. وبما أنك قد ذكرتَ فاراناسي حيث الإله “شيفا”، فأنا من طائفة تعبد الإله شيفا. فقبل حلول الهندوسية، كانت هذه المنطقة تدين بديانة تدعى “الشيفية”، وأنا أنتمي إلى هذه الطائفة المجتمعية “الشيفيين”، فهذه هي الخاصية الثانية لهذه المنطقة: كل من يُدْعى هندوسيين في الهيمالايا هم في الواقع “شَيفِيين”. والمنطقة حاليا تتمتع بجو من السلام بحضور قداسة “الدالاي لاما”، وهي من أكبر المراكز البوذية في العالم، ويُـعتقد أن البوذا عاش هنا في هذه القرية، فنحن محظوظون بالعيش حيث عاش البوذا الأول.
مكان محظوظ، مكان مقدس، وسكان محظوظون.

-نلاحظ في الهند العديد من الديانات والفلسفات واللغات، كيف لبلاد واحدة استيعاب هذا الكم الهائل من التنوع؟
-هنا يكمن جمال الهند وسرها وقوتها، فمِن عظم حظ هذه الدولة أنها تقدم للعالم هذا المثال؛ الذي على الدول الأخرى الاستفادة منه، في هذا الحيز الضيق تجد الكثير من الديانات، وإن كانت الديانة البوذية هي الغالبة على معظم الناس، وهي أيضا موجودة في عدة مناطق في الهند. الناس في هذا البلد يعيشون سوية في انسجام مع كثرة عقائدهم المختلفة. وأنت قد زرتَ التاج محل، وهو مظهر من مظاهر مساهمة المغول المسلمين في هذه الأرض لمدة 500 سنة، ونجحت إسهاماتهم بشكل مبهر. لم يدَعُوا شيئا إلا وساهموا فيه؛ اشتغلوا على الحجر، على الخشب، على الفن والمعمار والهندسة والتخطيط والطرق، كل الطرقات التي نملك في الهند الحديثة هي من تأسيس “شير شاه”، فهذا يعطيك فكرة عن جودة عملهم. كثيرون هم من ساهموا في بناء هذا البلد، وهم بذلك أدمجوا كيانهم في بنيتها بدينهم أو روحانيتهم، هم محبون لهذا البلد، وهذا ما يمنحها جزءا من سحرها.
-أخبرتني أن سنك 54 سنة، ولكنك تبدو أصغر من ذلك بكثير، وتبدو سعيدا أيضا، ما سر هذا السرور والإشراق على وجهك؟
-أنا رجل جبلي، أنحدر من مجتمع جبلي، ولدت متسلقا للجبال، وهذا أعانني كثيرا في الحصول على تنشئة وصحة جيدة، كما أنني لا زلت أعيش في الجبل، حيث أتمشى وأتحرك كثيرا، وكما أخبرتك فإني أشتغل بالأعشاب، وهي كل ما آكُلُ في الغالب، والأعشاب من الفلاحة العضوية التي تمنحك الاطمئنان حول صحتك، وأنا من مناصري الحياة الطبيعية: حليب جيد، أكل بسيط وطبيعي ونظيف. فهذه أحد الأسباب التي جعلتني أحافظ على نضارتي وصحتي، كما أن الجو النقي أيضا يساهم في إسعاد الناس، فهذه المنطقة غير ملوثة، وأنا ممتن جدا لأجدادي، إذ جعلونا نمكث هنا في الجبال وفي الطبيعة النقية.
-لاحظت أثناء إقامتي هنا أن الناس يتحدثون كثيرا عن السعادة، وخاصة الوافدين من بلدان أخرى غير الهند، فماذا تعني السعادة بالنسبة لك؟
-السعادة تأتي عندما نبتعد عن الشهوات، يجب وضع حد لشهواتنا؛ إن التحكم في شهواتنا هو الخطوة الأهم في طريقنا إلى السعادة. فأنت حين تطلق العنان لرغباتك كلها، ستتوق دوما إلى ما هو أكثر، وستتعب دائما لنيله، ولن يبقى لك إذ ذاك وقت للشعور بالسعادة. إن علينا إدراكَ حاجياتنا، والبدءَ من غرف نومنا، تعلمُ أننا نحتاج إلى فراغ كبير في غرفنا، وأغلب الناس غرفهم تعج بالأشياء، إلى درجة أنهم لا يتركون فيها مكانا للحركة، فلنبدأ بغرف نومنا أولا، ولنحرر المكانَ من الفوضى، لنصير أحرارا، والحرية هي السعادة بمعنى من المعاني، علينا إدراك معنى السعادة وأهمية الحرية.
كان هذا الحوار هو غنيمتنا لليوم الثاني، أما اليوم الثالث فقد حاولنا أن نستجوب فيه بعض الرهبان، لكنهم كانوا انطوائيين جدا، لا يكادون يجيبون عن أسئلتنا، ثم فجأة، ونحن نتناول وجبة الفطور، أثار انتباهي نادل المقهى الذي يظهر من تقاسيم وجهه أنه من إقليم التيبت، كان يبتسم لكل الزبناء، ويحافظ على ابتسامته مع العاملين معه، لم تفارق الابتسامة محياه طوال مدة مراقبتي له، ذهبتُ إليه قصد محاورته، ونجح الأمر، وجاء الحوار على هذا الشكل:
-معذرة؛
– نعم سيدي، هل تريد شيئا آخر؟
-لا، أريد فقط أن أسألك بعض الأسئلة، نحن زوار لهذه المنطقة وسنرحل بعد قليل، وأريد أن أعرف بعض الأشياء عن التيبتيين الذين يعملون هنا: هل أنت من التيبت؟
-نعم، أنا من التيبت، ولدت في “أمدوناوا”، وأعيش هنا منذ عشر سنين، أشتغل في هذه المدينة.
-هل سبق لك أن التيقت بالدالاي لاما؟ قيل لي: إنه يعيش هنا، صحيح؟
-في الواقع، جل سكان هذه القرية إنما يقطنون هنا لأجل أن قداسة الدالاي لاما يعيش بها، يأتون إلى هذه القرية لزيارته وأخذ بركته، لم يسبق لي أن تحدثت إليه، لأنه منشغل جدا، ويسافر كثيرا، ولكني رأيته من بعيد.
-أفهمُ أن الناس إذن يتبعون الدالاي لاما حيثما حل وارتحل، لماذا؟
-هو أهم شخص في التيبت، هو بمثابة ملك التيبت على كل الأصعدة، حاليا هو الملك سياسيا، ولكن على الصعيد الديني خاصة، هو ملك التيبتيين، وأينما ذهب يتبعه الناس، وهم على استعداد للتضحية بحياتهم من أجله.
-وكيف أتيت إلى هنا؟
-في الأول، كنت في مدرسة في بلدي، فظهر لوالدي أني يجب أن أذهب إلى مكان جديد، فوافقت، وكان عمري حينها لم يتجاوز 13-14 سنة؛ فكان علينا أولا السفر إلى مدينة “لاسان”، وهي مدينة في التيبت، ثم إلى منطقة على الحدود تدعى “دام”، ومن ثم قالت لي عائلتي: إن علي المتابعة لوحدي في قافلة تتكون من 11 شخصا، ومشينا لمدة أسبوعين كاملين عبر الجبال، وعند وصولنا النيبال وجدنا مؤسسة هناك، فسألوني إن كنت أود أن أكون راهبا أو تلميذا، فاخترت أن أكون تلميذا، فأخذوني إلى المدرسة، ودرست لمدة 8 سنوات، ثم أتممت بعدها حتى العام 12، لأنسحب بعد ذلك من الدراسة. ثم شرعتُ في العمل في هذا المقهى باقتراح من صديقي، وحتى أكون صادقا فإني لم أكن مخيرا في ذلك، كان يجب أن أعمل إن أردت العيش هنا، من دون عمل يدرُّ علي دخلا أتزود به لا يمكنني البقاء هنا، وكذلك كان.

-إذن لا شك أنك تشتاق إلى عائلتك، وتود الرجوع إليهم؟
-نعم، أود الرجوع إلى عائلتي التي لم أرها منذ 11 عاما.
-وهل تتحدث إليهم أم انقطعت الصلة بينكم بشكل كلي؟
-نعم، أتحدث إليهم عبر الهاتف.
-ولم ترهم منذ فراقك معهم أول مرة؟
-إي نعم، لم أرهم منذ افترقنا قبل إحدى عشرة سنة.
-لمَ لا يستطيعون الالتحاق بك؟
-لأنهم فقراء، لا يملكون المال الكافي للسفر، كما أنهم لا يملكون سببا كافيا يَحملهم على المجيء إلى الهند.
-هل يمكن أن تصف لنا كيف تعيش بعيدا عن عائلتك وبلدك هنا في المهجر لمدة ١١ سنة؟
-الأمر كان صعبا في البداية، أما الآن فقد تكيفت مع الوضع، الحياة والمال لا ينسجمان أحيانا، قد تجد نفسك مضطرا لدفع الإيجار، وأنت لا تملك المال، قد تكون جائعا ولا تملك المال، دخل زهيد لا يتجاوز خمسة آلاف روبية، لا يمكن أن يغطي أساسيات العيش، فضلا عن الإيجار ونفقات العبادة وغيرها من النفقات الطارئة. الأمر كان صعبا للغاية ولكني تعودت على ذلك، كنت أدرُس، وأنا وحدي، بدون عائلة ولا علاقات ولا أقرباء، كنتُ منعزلا، لكني كافحت حتى تكيفت، والإنسان كائن يتكيف، وصارت الأمور كلها إلى ما يرام.
-وما هي خططك للمستقبل؟
-حلمي الأكبر أن أتمكن من مساعدة عائلتي، إنهم لا يتوفرون على فرصة التعليم، ولا على الكهرباء أو التكنولوجيا، إنهم لا يزالون في العصور الوسيطة، وهم فقراء جدا، أود حقا مساعدتهم، لكنني الآن لا أستطيع، لا أحصّل من عملي إلا قوت يومي، ولا أدري ما قد يجلبه المستقبل لي.
-طيب، هناك سؤال أسأله كل الناس الذين ألتقيهم هنا في الهند، وهو: ماذا تعني لك السعادة؟ هل يمكنك أن تجيب على هذا السؤال؟
-أظنني أستطيع، السعادة أن تستطيع الاستمتاع بكل لحظة من لحظات حياتك. وأشعر صدقا أنني أعيشها الآن؛ لأنه لا مال لي لأقلق عليه، بل كل ما في الأمر أنني أقوم بعملي الذي أحبه كثيرا، لستُ قلقا بشأن عائلة ولا مسيرة مهنية، أعيش كل لحظات حياتي بهدوء، يوما بعد يوم، وهذا كله جيد.
-ذكرت أن عائلتك فقراء، ما معنى الفقر والغنى، وما الفرق بينهما؟
-لا شك أن توفُّر المال يمكنك من فعل أشياء جيدة في كثير من الأحيان، كمساعدة الفقراء والمحتاجين، قد تتبرع بمال أكثر، وتأكل طعاما أفضل. عشت أياما بلا نقود في جيبي، لثلاثة وأربعة أيام، وهذه طبيعة الحياة، من يدري إن كنتُ سأعيش غدا أم لا؟ لا أحد يعلم الغيب، نعم يجب أن نخطط للغد، ولكن الأكثر أهمية أن تعيش الآن سعيدا. وماذا بعد؟ إن لم يكن لديك مال، كن سعيدا مع ذلك، تزوّد بما تجد، القصدُ أن تلبي احتياجاتك الطبيعية بما لا يضرك ولا يضر غيرك. أود، بشدة، الذهاب إلى التيبيت ورؤية والدي، واكتشاف ما أستطيع تحقيقه هناك، أريد شيئا جديدا، فقد زرت بلدا جديدا، وتعرفت على أشياء جديدة. أظن أن بوسعي الآن فعل شيء جيد هناك، أستطيع تأسيس مشروع شخصي، كهذا المقهى.
كانت هذه زيارتي لقرية ماكليود غانج، حاولتُ أن أستثمرها إلى أقصى حد ممكن، وثقت أغلب لحظاتها بالكتابة والتصوير، كانت هناك الكثير من الحوارات، انتقيت منها ما وجدتُه جديرا بالنشر ومشاركته معك عزيزي القارئ، ورجائي أن تكون قد وجدت فيها بغيتك، وأن تكون هذه المقالات قد أشبعت شيئا من فضولك المعرفي في التعرف على هذا البلد وعلى ثقافته ودياناته. وأما على المستوى الشخصي، فإني قد استطعتُ، بفضل هذا السفر، فهمَ الكثير من الأشياء عن الديانتين الهندوسية والبوذية، وكلّما تعمقتُ في فهمهما كلما ازددت احترامًا لمقاصدهما الروحية. وفي المقابل، ازددت حبًّا وتعلقًا بالإسلام، الذي بسّط المفاهيم والعبادات، في انسجام تام بين الوحي والعقل والروح، مبينا المقصد والوجهة والمصير، بأبدع طريق وأوفى بيان.
ومن يقرأ لكبار مفكري هاتين الديانتين، بل من يقرأ لبوذا نفسه، والدالاي لامات الأربعة عشر، وأوشو، وكريشنامورتي، وآلان واتس وتيش نهات هانه وآخرين، ثم تتاح له فرصة التجول في معابد الهندوس والبوذيين، سيندهش، غاية الاندهاش، حين يكتشف بأنهم إنما يدندنون حول الأمور نفسها التي يتحدث فيها كبار الفلاسفة والمفكرين المسلمين، طبعا مع اختلافات في العقيدة والعبادات: الحب، والسلام، والأخلاق، والاحترام، ومجاهدة النفس، والزهد من الدنيا، والتحرر المطلق من كل ما يحول بين الإنسان وخالقه، ليصل إلى درجة الإحسان، حتى يعبد الله وكأنه يراه، وهي درجة الإحسان في الإسلام، التي هي أقصى الغايات التي يصل إليها العابد الناسك، بأن لا يرى ما سوى الحق سبحانه،  هذا التحرّر يشبه ما يسميه الهندوس بالموشكا، كما يشبه ما يسميه البوذيون بـ النيرفانا.