في فلسفة الرحيل…
كيف يكون شعورُك وأنت تجلسُ مع أفراد أُسرتك وأطفالك في بحبوحة بيتك، تلاعبُ هذا وتناقش ذاك، و تضع قبلة على خد بنتك أو أختك الصغيرة…
ثم في لمح البصر ينطفىء المصباح، وينقطع التيار.
لا شك أن ذاك كان آخر ما طرق ذهنك، أو جالَ في خاطرك. إنك حينها تجفُل كأنما كنت في حُلمٍ بعيد المدى، طوى بك المسافات وانحاز بك بعيداً جداً عن المصباح، لتُغير حينئذ كلَّ أولويَّاتك وتراجع كل أوراقك فتبحث عن حلٍّ سريع لهذا الطارىء الذي لم يخطر ببال ولا دار بخيال!
هكذا نرى الحياة حينما نفتح أعيننا ذات صبيحة لنجد أحداً ممن كانوا لنا قنديلاً ينير زاويةً من حياتنا ـ بالبسمة، بالأمل، بالحب، بالوئام ـ ويالله! قد انطفأ نوره عن هذه البسيطة، ولحِق بركب الراحلين إلى الأبد.
يا لسذاجة أحلامنا، ويا لبُعد نظرِنا وقِصره في ذات الحين!
نحلمُ كثيراً ونتكلم أكثر، نشيد قصوراً لمشاريعنا ورؤانا للمستقبل القريب والبعيد ونكلُّ بهمومها قبل المشيب، يصوغ كلٌّ منا في ذاك عولمَه الجميلة وأحلامه الوردية، يرتب في ثناياها كل التفاصيل الدقيقة الصغيرة والكبيرة.
دائماً ما تكون أحلامنا على شاكلة الخطة المعتادة في البيئة المحيطة بنا، تكون خريطة العمر فيها بحدود التسعين أو الثمانين، ثم نملأ الفراغ الذي نَخَاله ممتداً إلى أمدٍ قَصِيٍّ، بالثلاثية المعتادة (دراسة ـ وظيفة ـ زواج) مع اختلاف في بعض التفاصيل الطفيفة.
كلٌّ منا لا يتصور مشهد رحيله وتوَسُّده الثرى إلا على فراش دافىء في بيت هادىء، يحيط به أولاده وبناته، وأحفاده وأولاد أحفاده ربما… يتنفس حينها آخر أنفاسه ويُملي عليهم آخر وصاياه وكلماته.
هذا أقل مدى من التفاؤل يستطيع الإنسان البسيط أن يرى منه زاوية الرحيل المظلمة.
لكن هذا الأمدَ الأقل من التفاؤل لا يتحقق غالباً إلا في الأفلام، كما هو شأن أكثر الأشياء الجميلة في الحياة.
قال حكيمٌ ذات يوم ” يستغرقُ تكوينُ الإنسان السَّويّ في شكله البدنِي وبُعده العقلي والوجداني في أقل الحدود عِقدين أو ثلاثةً من الزمان، لكن دقيقة واحدةً أو أقلَّ تكفي لينتهي كُل شيء”
لعلَّ وتر الفراق أشدُّ أوتار الألم نبرةً، وأكثرها مرارةً، لأنه دائماً ما يخرج بنا عن الصمت الباطني، ويوقظ فينا عشرات الأسئلة والاستفهامات هل نحن حقاً في الطريق الصحيح!
وإن فُجاءةُ الرحيل لتكون غالباً أشد وخزاً وخيالاً من الحقيقة والواقع.
من عقود قال الجواهري بنبرة الشيخ الذي هدَّته السنين، وعظامُه تصْطكُّ من وهن الهرم، على ذكرى من فارقته وهو في ريعان الشباب، ولمَّا تنطفىءْ منه جذوة الحُزن والألم:
ذكرى رحيل الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري
قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا…
عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا
تَجري على رِسْلِها الدُنيا ويتبَعُها …
رأيٌ بتعليلِ مَجراها ومُعتقَد
أعيا الفلاسفةَ الأحرارَ جهلُهمُ …
ماذا يخِّبي لهمْ في دَفَّتيهِ غد
طالَ التَمحْلُ واعتاصتْ حُلولُهم …
ولا تزالُ على ما كانتِ العُقَد
ليتَ الحياةَ وليت الموتَ مرَحمَةٌ …
فلا الشبابُ ابنُ عشرينٍ ولا لبَد
ولا الفتاةُ بريعانِ الصِبا قُصفَتْ …
ولا العجوزُ على الكّفينِ تَعتمِد
.
من سوء الأدب مع الراحلين عنا أن نقول يا ليتنا ما عرفناهم ” لكنني دائما ما أقولها”
هل تعرف ما معنى أن يطرق بابكَ داعي الرحيل يا صديقي!
يعني أنك ستملأ صفحات أصدقائك في مواقع التواصل ساعة من نهار، ثم ينتهي الأمر.
يعني أن كل هموم العالم من أقصاه إلى أقصاه تختفي في سرعة البرق، ولا تعود ذات مغزى ولا أهمية بالنسبة لك بتاتاً.
يعني أن صفحتك ستُطوى من الوجود، إلا في ذاكرة بضعة أشخاص ممن عرفوك من قريب، لتصير عندهم محض ذكرى من الزمان الغابر.
كلهم يقوم صبيحة غدٍ من نومه ويكمل حياته كالمعتاد؛ هذا في العمل، وذاك في الدراسة، وتلك في اللعب…
يستيقظ الشارع كما العادة والشمس ستشرق وتمد ظلالها على الأفق لتؤذن بيوم جديد لا شيء ينقصه سواك.
لا عزاء للواحد منا حينما يقف على حافة الحياة إلا أن ينظر وراءه ماذا تبقى منه في هذا الوجود الفسيح.
ذكرٌ جميل، عملٌ صالح، مواساةُ محزون، إعانةُ ضعيف، مسحُ دمعة مسكين…
حينها فقط نبتسم ابتسامة مغتبط، ثم نمضي في طريق الراحلين.
ربما لا يكون الموت شرّاً ومصيبةً للراحلين، بقدر ما يكون ألماً ولوعةً لمن يودعهم على شفا مرفأ أو شفا مقبرة.
رحمك الله صديقي جمال وأسكنك فسيح جناته.