قراءة في كتاب: الأحلام بين العلم والعقيدة لعلي الوردي

1٬686

يعد علي الوردي من أبرز علماء الاجتماع في القرن العشرين على مستوى الرقعة العربية، وله إسهامات علمية عديدة في تخصصه الدقيق كدراسته حول العلامة ابن خلدون وغيرها من الكتابات التخصصية في الحقل السوسيولوجي، وتتميز كتاباته عموما بالبساطة في الأسلوب والجمالية في التعبير بدون تنطع لفظي أو تصنع إنشائي، إلا أن مؤلفاته جلبت له الكثير من النقد بسبب جرأته الكبيرة وآرائه المخالفة للمعهود، فعندما تمسك كتاباً من تأليف علي الوردي؛ يستحسن أن تحتسي قهوتك بسبب ما ستتعرض له من زلزال فكري ومعرفي وخلخلة لما اكتسبته من تمثلات.

نظرة حول المؤلَف:
بين يدينا أحد الإنتاجات الفكرية المهمة لعلي الوردي وهو كتابه: الأحلام بين العلم والعقيدة، وكما يتضح من عنوانه فإن الكتاب يدور حول موضوع الأحلام؛ الذي يعتبر من المواضيع الشائكة والمحيرة في دنيا الناس، وهو كتاب مختلف عما هو سائد في الأوساط الشعبية من كتب تأويل الأحلام والتي تشهد رواجاً كبيرا بين العنصر النسوي خصوصاً.

يقع الكتاب في حدود 408 صفحة في طبعة دار الوراق 2017م، وقد قسمه صاحبه إلى مقدمة وثلاثة أجزاء أساسية، بالإضافة إلى ملاحق متفرقة تتناول مواضيع مختلفة على شكل مقالات نثرية طويلة.

أما القسم الأول فقد جاء بعنوان: “الأحلام والعقيدة”، وتناول فيه الوردي موضوع الأحلام من الزاوية الدينية، فتعرض إلى أهم الرؤى التي خاضت في هذا الموضوع انطلاقا من أقوال القدماء، فأصحاب التفكير البدائي كانوا يربطون بين الأحلام وبين عالم الآلهة والشياطين، والمثال على ذلك أن البابليين كان لهم إله خاص بالأحلام اسمه (ماخر)، وقد وُجِد الأمر نفسه عند المصريين، ويعد كتاب أرطميدورس هو أول مؤلف في العالم كُتب في موضوع الأحلام. وقد جاء في خمسة كتب ترجمت فيما بعد في عصر العباسيين.

أما المعلم الأول أرسطو؛ فقد كانت نظرته مخالفة لما توصل إليه البدائيون، حيث فصل بين الأحلام وبين عالم الآلهة وتوصل إلى أن الأحلام يمكن أن تعلل تعليلاً عقليا لا دخل للقوى الغيبية فيها، وقد جاء الرواقيون بعد أرسطو بنظرية مخالفة في تفسير موضوع الأحلام ومضمونها أنها تعطي بعداً غيبياً للأحلام وتقول إن العقل لا دخل له في هذا الموضوع؛ فهي نظرة أقرب ما تكون إلى فكر المتصوفة.

انتقل الوردي للحديث عن الأحلام عند المسلمين، فوصفهم بأنهم يقدسون الأحلام إلى درجة كبيرة باستثناء المعتزلة الذين يرون أن الأحلام مجرد أضغاث وأوهام، ومستندهم في هذا أن الإدراك الصحيح لا يتأتى إلا في اليقظة، في حين يذهب المتصوفة عكسهم فيقولون بأن الأحلام جزء لا يتجزأ من النبوة ويتجلى ذلك في الرؤيا الصادقة، بل إن الغزالي ذهب إلى أن معرفة المنام أصدق من معرفة اليقظة.

ويرى الوردي أن الأحلام قد أثرت تأثيراً بالغاً في العقائد الإسلامية، بحيث أخذ الناس بروايات عن النبي عليه الصلاة والسلام انطلاقا من الرؤيا الصادقة وبنوا عليها أعمالاً وأفكاراً مقدسة؛ بسبب رؤية النبي عليه الصلاة والسلام في المنام وإخبارهم بها، وقد ذكر الوردي عدة أمثلة لهذا سواء عند السنة أو الشيعة الإمامية.

أما القسم الثاني فقد جاء بعنوان: “آراء حديثة حول الأحلام”، وقد سلط فيه الضوء على أهم النظريات التي فسرت الأحلام، من أهمها نظرية الحافز النفسي التي جاء بها فرويد، والتي يمكن أن نختزلها في أن الأحلام عبارة عن تحقيق مقنع للرغبة المكبوتة أو المضغوطة، وقد اعتمد فرويد على هذه النظرية في تفسير الأحلام في علاجه للمرضى النفسانيين.

وطبقا لنظرية فرويد قد يطمح الإنسان إلى امتلاك قصر مرقع بالذهب في الواقع لكنه يعجز عن ذلك، فتكون الأحلام محل تلك الرغبة المكبوتة، وهذا يبين أن الأحلام لا تعدو كونها أمنيات تعذر تحقيقها في الواقع.

وجاء أدلر تلميذ فرويد بنظرية أخرى في تفسير الأحلام مفادها أن الأحلام ما هي إلا تعبير عن الشعور بالنقص؛ أي أن الإنسان يسعى في حلمه إلى تحقيق عقدة أرهقته في حياته، فهناك من تشغله العقدة الجنسية وهناك من تشغله العقدة المعاشية وهناك من تشغله العقدة المكانية، وكل هؤلاء يسعون في أحلامهم إلى التخلص من هذه العقد.
وقد حصر الوردي الأحلام في أربعة أصناف أساسية:

أحلام النوم: وهي الأحلام التي يشترك فيها جميع الناس على نمط متشابه، فقد يحلم الإنسان بأنه يطير في الهواء رغم أنف الحساد أو يكسر رأس عدوه.

أحلام اليقظة: وهذا النوع يستطيع الإنسان أن يوجهه كما يريد، فليس عليه إلا إن ينكمش على نفسه ويعتزل الناس.
الأحلام الكيشوتية: وهذا النوع لا يحتاج إلى اعتزال الناس، فيقوم الإنسان بخلق العالم الذي يشتهي أن يعيش فيه وبهذا تصبح حياته عبارة عن حلم متصل غير منقطع، وهذا النوع من الأحلام ضرب من الجنون إلا أن صاحبه غير مجنون لكنه يعيش وسط حلم مستمر.

أحلام الجنون: وهي نوع من الأحلام يلجأ إليه الإنسان عندما تعجز الأحلام السابقة عن سد حاجته، وهي تدل على أن صاحبها قد يئس من الناس وأدرك أنهم لن يقدوره، وعندئذ يشطب عليهم جميعا، ويتخذ لنفسه الجو الملائم.

في القسم الثالث من الكتاب الذي جاء بعنوان: “العلم وخوارق الأحلام”، تناول فيه الوردي قضية تنبؤات الأحلام، كيف يرى الناس أشياء في منامهم ثم تصدق في واقعهم؟

حاول الوردي الإجابة عن هذا التساؤل بعرض قصص واقعية معززة لأشخاص حلموا بأحلام ثم تحققت في واقعهم، وقد انقسم الباحثون في تفسير هذا الأمر إلى فريقين: الأول يرجعها إلى عامل المصادفة والاتفاق، بينما الثاني ذهب إلى أن الإنسان يتوفر على حاسة خارقة تستطيع اختراق حجاب الزمن واستكشاف ما يكمن وراءه من حوادث مقبلة. ورأي الفريق الثاني في نظر الوردي أقرب إلى النظرية القائلة بالجبر؛ أي أن الإنسان مسير في حياته لا مخير.

انتقل الوردي لكي يوضح العلاقة بين الأحلام والتنويم المغناطيسي، فذكر أن التنويم يختلف عن الأحلام، فهما يتفقان من حيث كونهما فقدان للشعور ويختلفان في أن المُنوم يستطيع أن يجعل النائم يرى الأشياء التي يوحي بها، في حين أن الأحلام عكس ذلك.
حاول الوردي أن يوضح العلاقة بين الأحلام والعبقرية والإبداع، فيرى أن الإبدع الفني والعلمي له صلة وطيدة بالأحلام، فكلما كان الإنسان صاحب أحلام واسعة وضخمة كلما كان مبدعاً ومنتجاً في مجاله، وقد ضرب الوردي عدة أمثلة لعلماء وعباقرة كان للحلم أثر كبير في نجاحهم الباهر، فهذا ديكارت يقال إنه كشف كشوفه العظيمة وهو نائم في فراشه صباحاً، وكذلك يقال عن هنري بوانكاريه الرياضي الكبير أنه توصل إلى حل مسألة رياضية هامة وهو في حالة نوم.

وفي هذا الصدد، توصلت مجموعة من الدراسات النفسية إلى أن الإبداع الفني عند الفنان قد يأتي في الغالب من حلم اليقظة؛ أي نتيجة عملية لا شعورية ومن هنا، فالإبداع ليس نابعاً من العقل الواعي بالأساس بل مرجعه يكون في غالب الأحيان إلى العقل الباطن.
وهنا يشير الوردي إلى أمر مهم مفاده أن العقل الواعي ذا طبيعة تحليلية، فهو يتمكن من البحث والتقصي لكنه ضعيف في الابتكار، بخلاف العقل اللاوعي الذي يعد منبعاً للإبداع، وهذا هو الذي يفسر الفرق بين الحفاظ الذي يجدون عجزاً في الفهم والإبداع، أما الأذكياء الملهمون الذين يفهمون الأفكار وينسونها يكونون أقدر على حل المشكلات وأبرع في إيجاد الأجوبة.

فالأحلام باعتبارها تشتغل في لاشعور الإنسان يمكنها أن تكون ملجأ للمبدعين لاقتناص الأفكار والنظريات. والإنسان الذي يحلم كثيرا ليس بالغبي أو المجنون بل قد تكون أحلامه هذه قنطرة نحو إنجاز تاريخي عظيم يخلد ذكره.

ملاحظات ختامية حول الكتاب:
لاشك أن لكل عمل إيجابيات وسلبيات نجاحات وهفوات. سأعطي هنا ملاحظاتي وانطباعاتي حول هذا الكتاب بعد أن عرضت أهم ما تضمنه بين ثناياه من أفكار ومعلومات.

أعجبني في كتاب علي الوردي سلاسة الأسلوب وبساطته؛ فقد تمكن من عرض نظريات فلسفية وعلمية معقدة بطريقة سهلة بسيطة تناسب مختلف المستويات الفكرية والعقلية للناس، وبالتالي فكتابه يستطيع أن يقرأه الأكاديمي المتخصص والعامي البسيط، وهذا في نظري هو ما يجعل للكتاب ذاك الصيت العالي لدى القراء.

كان الوري ضعيفاً في الشق المتعلق بالمعالجة الدينية لموضوع الأحلام، وذلك يعود لكون مجال عمله هو علم الاجتماع، فيكون حديثه في الدين عبارة عن إرسالات وإطلاقات كبيرة تحتاج إلى تحقق وتحقيق، كما أن المعالجة الدينية للأحلام تناولت رأي بعض الفرق والعلماء كالمعتزلة وابن العربي أكثر مما تناولته في مصادر الدين الأساسية التي هي: القرآن والسنة.

أبدي تحفظي على بعض الأفكار التي يؤمن بها الوردي، والتي تمثل الخلفية الأيديولوجية التي ينطلق منها بشكل عام، مثل كلامه حول الصراع بين الصحابة، ومسألة الحجاب والاختلاط بين الجنسين، والشذوذ الجنسي.

على العموم، يبقى الكتاب جدير بالقراءة مهما اختلفنا مع صاحبه، فهو خفيف الظل غزير الفائدة ويعالج موضوعاً مهماً له تأثير كبير في المجتمعات قديماً وحديثاً.