كن ولا تكن..
ترتفع نبْرَةُ الصوت تِلقائيًا بمقدار ما يشتدُّ الوقْرُ والصَّمم على أذُنَيْ المريض؛ إذ يُخيَّل إليه أن لا أحدَ يسمعهُ إلا إذا أسمعَ نفْسَهُ؛ فمقدار الإحساس بالمشكلة هو ما يَحْكُم ردَّة الفعل لِدفْعِها.
إن القراءة الهادفةَ حتميةٌ لازمةٌ وخُطوةً أولى لإرساءِ أو إصلاحِ دعائمِ أيٍّ صرح حضاري مُتداعٍ، وصياغةِ نموذجٍ فكري جديدٍ، وقد غُمَّ اليومَ على كثير ممن ينشُدون العلم والمعرفةَ في عصر التراكُمِ الاهتداءُ إلى الطريقة المُثلى وسواءِ السبيل في شق مسارٍ غير ذي عِوجٍ نحو الغايةِ.
والقارىءُ اليوم حين أخلد إلى الأرض استهوته الحضارة، وتخطَّفَتْهُ أجهزة التواصل، وشغلته صفحات المواقع عن صفحات الكُتب، فلا يحفَل إلا بمكتوبات “الوجبات السريعة” لأنها توفر المتعة والسهولة، وإن كان مردودُها المعرفيُّ والفكريُّ ضئيلاً أو منعدماً؛ مثل كتب الخواطر والأفكار والمعلومات الجاهزة، وكثيرٍ من صنوف الروايات الفارغة مما تعتوِرُه الأقلام الاستهلاكية. على حين يفتقر إلى الأناة والرويَّة، ويعتريه الملل والسآمة، إزاءَ الكتب المطوَّلة، والأسفارِ المسترسلة؛ مما يستلزم طيَّ الرُّكَب والعكوفَ والتركيز وإرهاق الأعصاب ليالي وأياماً أو شهوراً، حتى يكتمل الفهم، ولا يمِيزُ في ذلك بين “كتابٍ يُستراحُ منه، وكتابٍ يُستراح به” و “كتاب البَذرة وكتاب الثَّمَرة”!
1ـ كن كيفيّاً ولا تكن كمياً:
الظرف الحضاري الحديث يتطلَّب الكثير من القراءَة، مع الارتقاء بنوعية المقروء، فمن يقرأ ـ كحاطب ليل ـ في كل غث وسمين، يصير إلى معرفة سطحية خاطفة، تفتقر إلى الانتظام في المفاهيم العامة، وهذا لا يختلف كثيراً عن الجهل. ولو قُدِّر للواحد أن يقرأ في كل أسبوع كتاباً في ستين سنة فلن يطَّلع إلا على (ثلاثة آلاف كتاب) وهو رقم متواضع جداً إزاء ما تزخر به المكتبات في كل العلوم، فلابد من حسن تدبير الوقت واستثمار العقل في القراءة.
ذكر العريان أن الرافعي كان يُسَلِّمُه كل ما يصله من كتب جديدة ليشير له على المواضع التي تعنيه أن يقرأ منها، ويدع ما لا جدوى عليه من قراءته ضناً بوقته! فليس كلُّ ما يُكتب يستحق القراءة، بل إن الكتب الأصلية في أي فن تعد على رؤوس الأصابع، بعيداً عن الركام الهائل غير المفيد مما يكتبه كلَّ يوم عشرات من أصحاب الأقلام فقط ليقال إنه يكتب، وعلى هذا يُفهَم قول الإمام علي: “العلم نقطة كثَّرَها الجُهَّال“.
فإن كتاباً واحداً يحمل أفكاراً جديدة تفتح آفاقاً جديدة أجدى من ألوف الكتب التي تجتر معلوماتٍ مستقرة يعلمها الخاصة والكثير من العامة. والذين يخرجون في كل ثلاثة أشهر كتاباً، وأصحاب الموسوعات الضخمة هم من أهل الكم، وعلينا قبل أن نتورط في شراء إنتاجاتهم أن نتأمل ملياً! كما أن من يقرأ في كل علم دون هدف محدد، تظل رؤيته للأشياء متشظِّية، وكثيراً ما يقع في شَرَك الآراء الشاذة. فإن في كل لون من ألوان المعرفة روَّاداً نابهين لهم إسهامات متميزة في تنهيج تلك العلوم، وعلى موائدهم يعيش الألوف من الباحثين الأقلّ موهبة وخبرة، لكن الكتاب الأصلي يستغرق الأوقات ويكبد قارئه العناء ليستوعب معانيَه، إلا أنه يُغني عن غيره، فقراءة ما كُتِب عن (الجاحظ أو نيتشه) مثلاً من دراسات وأبحاث وتعليقات، قد يأخذ من العمر سنوات وشهوراً، وما تزال البحوث تتناسل وتتراكم، ثم لا يكون وراءها سوى أفكارِ قاصرة مُعْتِمة لا تُسمن ولا تغني. على حين يزخر الكتاب الأصلي بِلُبَاب الثمرة دون هدرٍ لعُملة الوقت الثمينة.
والنابهون في كل فن يُعرَفون من خلال الشهرة أو الاطلاع على قوائم المراجع، والمتخصصون في كل علمٍ وفنٍّ يعرفونهم كما يعرفون أبناءهم! ويثنون عليهم : وَالنَّاسُ أَكْيَسُ مِنْ أَنْ يَمْدَحُوا رَجُلاً إِنْ لَمْ يَرَوْا عِندَهُ آثَارَ إِحْسَانِ.
2ـ كن قارئا كاملا ولا تكن نصف قارىء :
إلقاء نظرات شاردةٍ على المقدمة وتقليبُ بضع صفحاتٍ من كتابٍ، ثم الإلقاء به إلى جنبِ إخوته بين الرفوف سِمَة غالبة على كثير من القراء، أورثها الكسل والافتقار إلى الأناة والصبر، فنتج عن ذلك تنافُرٌ قاتِم، وعشوائية في المعلومات وتفكك في المعرفة، فأغلب الكُتُب تكون ذات صِبغة تكاملية ومن ثمَّ لا تؤتي أُكْلهَا ما لمْ تكتمل قراءتُها، بل إن من المؤلفين من يمكن تسمِيَتُهم بالـ(فسيفسائيين)؛ إذ يشتغلون على مشروع فكريٍّ متكامل يأخذ كلُّ شق منه بناصية الشق الآخر، ويلاحظ ذلك من خلال الإحالة في الهوامش على كتب أخرى لنفس الكاتب، ليوحي بأن كتاباته ذات نسق تكاملي، وهذا ما قد يحوِجُ أحياناً للترتيب والترقي في قراءة منتوجه حتى تكتمل الصورة، فلا فائدة كاملة دون قراءة كاملة، وأنى لصاحب السآمة من هذا نصيب؟
3ـ كن مطلعاً ولا تكن مستغرقاً:
“العالم من عرف كلَّ شيء عن شيء، وشيئاً عن كل شيء” مقولة قديمة تعكس جانب الموازنة بين طرفي التخصص المنغلق، والتهافت على المعارف، فمن المطلوب أن يخصص الواحد 70% من قراءاته لمجال محدد يتميَّز فيه، ويرفع من خلاله عتبة تخصصه، ويدع الباقي للتنوع المعرفي، فإن أصحاب الاختصاصات المغلقة يفتقرون غالباً إلى الرؤية الشاملة في الكون والحياة.
والمستغرق في التخصص يطول عليه الأمد فيلقي بنفسه إلى مَغَبَّة الانهماك في أمور فرعية عادةً ما تكون خارج نظام تحديات الواقع، فالتطورات الكبرى رهينة بمعالجة أسس العلم وفلسفته، والغارقون في المسائل الدقيقة لا يكونون في العادة مهيئين ذهنياً للتفكير في القضايا الكبرى في تخصصاتهم. مما يفضي بهم إلى عزلة معرفية عن باقي فروع العلم التي تطرح بتداخلاتها وإمكاناتها الهائلة تقدماً علمياً عالياً عن طريق الانفتاح. وقد ثبت عبر التاريخ أن الذين قاموا بطفرات نوعية في العلوم والفنون هم الذين خرجوا عن دائرة التخصص إلى أفق أوسع.
يقول أينشتاين: “لقد علمني دوستويفسكي أموراً كثيرة عن النفس اﻹنسانية والحياة والكون، أكثر من أي عالم“.
4ـ كن منتِجاً ولا تَكُنْ مستورِداً:
الاستفادة من المقروء عنصر مهم في عملية القراءة، إذ لا طائل وراء قراءة دون إنتاج، ولولا ذلك لما امتدت سلسلة المعارف والعلوم عبر التاريخ في نسق تكاملي لا متناهٍ، وإن الغاية من القراءة في أي فن هي بلوغ (الملكة)وهي الأداة التي تمكن من إبداع شيء غير مسبوق. أما الاقتصار على الوسيلة دون غاية فذاك نوع من الفشل الصامت.
يقول جون لوك : “إن القراءة لا تمد العقل إلا بموادِّ المعرفة، لكن التفكير هو الذي يجعل ما نقرؤه ملكاً لنا“.
5ـ كن مبادراً ولا تسوِّف:
التسويف مزلق خطير، ومرتع وخيم تنداح فيه الكثير من زهرة الشباب والفتوة، فيعلق الشابُّ تفرُّغه للقراءة على الاستقرار واستكمال أساسيات الحياة على نمط “الحلم الأمريكي” وهو ما لا يتحقق غالباً، إذ مسؤوليات المرء في الحياة تتسع دوائرها، ويزداد ضغطها كلما تقادم به العمر لهذا قال أبو غدة : “وقد يُخَيَّل لبعضهم أن الأيام ستفرُغُ له في المستقبل من الشواغل، وتصفو له من المكدرات والعوائق، وأنه سيكون فيها أفرغ منه في الماضي أيام الشباب، ولكن الواقع المشاهد على العكس، فأُخْبِرُكَ خبر مَن بلغ ذلك وعرفه:
كلما كبِرتْ سنُّك، كبُرت مسؤوليَّاتك وزادت علاقاتك، وضاقت أوقاتك، ونقصت طاقتك، فالوقت في الكبر أضيق، والجسم فيه أضعف، والصحة فيه أقل، والنشاط فيه أدنى، والواجبات والشواغل فيه أكثرُ وأشدُّ!”
كل أولئك إشارات لمن يَغُذُّ الخطى نحو التميز ليضيف شيئاً إلى نفسه وإلى الوجود ولا يكون شيئاً عابراً. فكن… ولا تكن.