يعيش الإنسان حياة واحدة على هذا الكوكب المليء بالتناقضات والآلام، وهذه الحياة التي نعيشها محدودة الآجال، فقد يموت هذا الإنسان في أي لحظة يجهل توقيتها الزماني وموضعها المكاني كما صور ذلك القرآن في قول الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}، فنحن إذا لسنا خالدين مخلدين على هذه الأرض، فما هي إلا حياة واحدة يجب أن نعيشها بأفضل طريقة ممكنة، كل حسب ما تيسر له من إمكانات وما وجد عنده من وسائل، وما أحيط به من ظروف.
عندما خرجت من بطن أمي إلى شساعة هذا العالم كانت تبدو لي الحياة وردية ذات طابع فطري أبيض، وبعد التقدم في الزمن، تبين لي أن تصوري الطفولي -الملائكي- كان خاطئا، فاتضح لي فيما بعد أن الحياة عبارة عن حرب ضروس إن لم تكن فيها محاربا أولي بأس شديد، وإن لم تصنع من نفسك رقما صعبا فلا مجال لك فيها ولا حظ، والحياة الدنيا في ذاتها -بين البشر- غير عادلة، فيكفي أن ترسل بصرك إلى الواقع لتشاهد أن الشخص X يركب في سيارة تساوي معاش 40 أسرة، ولهذا وضع الحكم العدل حياة أخرى اسمها “اليوم الآخر” حيث سيلقى فيها كل إنسان جزاء ما عمل من خير أو شر. فما هي إذا حقيقة النجاح؟ وما هي مواصفات الشخص الناجح؟
ترسخ في ذهن الغالبية العظمى من الناس في المجتمعات العربية أن الإنسان الناجح هو الذي يتوفر على دخل مريح، ومنزل فسيح، وسيارة متواضعة تحصل عليها عن طريق الاقتراض من البنك، وعلى هذا المعيار أصبحت النظرة المادية هي المهيمنة على المجتمع، فكل من حقق هذه الأمور الأساسية في الحياة يسمى في عرف العقل الجمعي “ناجحا”.
وفي نظري أن هذه الأحكام التي يصدرها المجتمع تجاه الشخص الناجح غارقة في الاختزالية؛ لأن النجاح له أبعاد متعددة ولا يمكن حصرها في الجانب المادي فقط، فقد نجد أن إنسانا نجح في تحقيق اكتفائه المادي، لكنه في مقابل ذلك فاشل في الجانب الثقافي والمعرفي، وقد نجد مثلا أن شخصا ناجحا بدنيا، لكنه فقير من الناحية المالية، وهكذا.
النجاح إذن يتعلق بتحقيق التوازن في حياة الإنسان وعدم تغليب جانب على جانب، والنجاح هو أن تكون متوازنا في حياتك فتحقق اكتفاءك الذاتي في الجانب المالي، والعاطفي، والبدني، والفكري، والروحي والنفسي، وهذا كله يؤدي إلى السعادة، وذلك أن لب النجاح هو تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة، فمن هنا نستطيع أن نقوم الشخص على مدى نجاحه في كل جانب من هذه الجوانب، فمثلا نعطيه: 70% في الجانب البدني و10% في جانبه الفكري والثقافي و50% في الجانب المالي وهكذا.
فإذا أخذنا مثلا الشخص X الذي صنف في قائمة مليونيرات منطقة معينة والذي حقق 100% في الجانب المالي، لكنه في المقابل لا يميز بين الفعل والفاعل أو بين البحر والنهر، فهذا كما يقول المثل: جهلك لن تخبئه ربطة عنق أنيقة، أو ساعة ثمينة، أو سيارة فارهة، والعكس بالعكس، لهذا يجب علينا أن نصحح نظرتنا للنجاح، ونتخلص من الرؤية المادية التي تختزل قيمة الفرد بما يملكه ويستهلكه لا بما ينتجه ويبدعه.
إن المعيار الذي نزن به النجاح ينبغي أن يراعي عدة جوانب في حياة الإنسان، وفي نظري أن الشخص الناجح هو الذي أفلح في تحقيق التوازن المذكور سلفا ولو كان متواضعا من الناحية المادية، وذلك أن مفهوم النجاح أكبر من أن نختزله في الأمور المادية، فلا يمكن أن نسمي شخصا ما ناجحا مع ضخامة رصيده البنكي وتوفره على آخر منتجات التكنولوجيا، لكنه فاشل في تربية أبنائه ويقع دائما في مشاحنات مع زوجته، فهو ببساطة فاشل في الجانب الأسري.
ومن الأمثلة أيضا أن تجد إنسانا يحرص على بدنه فيمرنه كل يوم بأصناف متنوعة من الرياضات المفيدة، لكنه في مقابل ذلك فاشل روحيا بتضييع صلواته والتفريط في واجباته الدينية عموما.
إن أي إنسان تجده ناجحا في عمله أو دراسته أو في حياته بشكل عام، اعلم أنه أفلح في تحقيق التطابق بين ما يحبه وما يصنعه؛ لأن الإبداع يأتي من بوتقة حب الشيء والميول إليه، وفي المقابل نلاحظ أن الشخص الذي يسير بدون رؤية تجد أنه يسلك طريقا لا يعرف نهايتها، بل لا يعرف أصلا كيف اختار تلك الطريق، فهذا الصنف يبقى في مكانه لأنه لم يحقق التوافق المطلوب الذي هو سبيل الإبداع. وفي هذا الصدد يقول ويليام شكسبير: “افعل ما تحب وليس ما يحبون” وهذا لأن الحياة حياتك وليست حياة الآخرين، والنجاح يتأسس دائما من الاختيار الصائب فلنختر ما نعاني لأجله بذكاء إذن.
النجاح في الحياة يتطلب التركيز على النقط الحيوية في شخصيتك وتطويرها، فكما لجسد الإنسان نقط حيوية قد تسبب له الشلل، فكذلك في شخصيته توجد نقط حيوية إذا عمل الشخص على تطويرها فسيقطع شوطا كبيرا في حياته، وأستحضر هنا الحكمة الهندية التي تقول: من أراد النجاح في هذا العالم، عليه أن يتغلّـب على أسس الفقر الستة: النوم، والتراخي، والخوف، والغضب، والكسل والمماطلة!
يرى برايان تريسي في كتابه: “علم نفس النجاح” أن هناك عاملين مهمين جدا لتحقيق النجاح في مختلف الجوانب الحياتية وذكر منها: قانون السبب والنتيجة وهي أن كل ما يحدث في الكون له سبب، فأفكارك الماضية هي ما أنت عليه اليوم، أما العامل الثاني فهو تحمل المسؤولية وتعني أن الإنسان لا يلجأ إلى الاعتذرات الواهية لتبرير أخطائه، بل يحمل نفسه المسؤولية في كل خطوة يقوم بها، وكمثال على ذلك من يقول فاتني القطار، والصحيح أن تقول تأخرت عن الموعد المحدد للرحلة فلم أدرك القطار.
يقول فهد الأحمدي في كتابه نظرية الفستق: “النجاح لا يتعلق بالكمية بقدر ما يتعلق بالاستمرارية، لايتعلق بالمجهود الضخم والهدف النهائي بقدر ما يتعلق بخلق عادة يومية صغيرة تستمر معنا طوال العمر”، فتكوين العادات الإيجابية كالقراءة والمبادرة والعمل الجماعي…الخ وتجنب العادات السلبية كالتسويف والكسل كفيل مع الوقت بأن يعطي نتائج جد مرضية لصاحبها.
ومن الأمور المعينة أيضا في طريق السعي نحو النجاح أن يتمتع الإنسان بالمرونة، فالديناصورات مع قوتها الجسدية انقرضت لأنها ببساطة لم تتكيف مع المتغيرات المناخية، وكذلك الإنسان الذي يمتلك عقلية الديناصور سينقرض لا محالة إذا بقي متشبتا بعقلية جامدة تحمل عدة ثقوب فكرية.
إن النجاح الأعظم هو الدخول إلى الجنة والانعتاق من النار، فالسعيد هو من جمع بين نجاحي الدنيا والآخرة، فلم يزهد في دنياه بل سعى في بنائها وازدهارها والتفوق فيها، ولم يهمل آخرته بإنجاز الأعمال المؤدية للنجاح فيها، وبهذا يكون الإنسان السوي هو الذي يجمع بين النظرتين أو القراءتين “الكون المنظور” و”الكتاب المسطور”.