مشاهدات من كوكب اليابان
عندما تسافر إلى بلد ما، يكون من الصعب أن تبني على أحكام مسبقة في تحليل ما يصادفك من ظواهر؛ خصوصا إذا تعلق الأمر بمجتمع معقد مثل اليابان، العريق بتقاليده وعاداته؛ حيث يعتبر هذا البلد من أقدم الملكيات على الإطلاق في العالم، والتي ترجع أصولها إلى ما قبل الميلاد؛ فالإمبراطور الحالي، رغم أنه رمزي فقط – بعدما أصبحت اليابان ملكية دستورية برلمانية – هو الإمبراطور رقم 125 في سلسة من الملوك الذين تناوبوا على هذه الدولة، منذ المؤسس الأول جينمو.
من المفارقات التي أثارت انتباهي سريعا في أولى جولاتي بطوكيو هو هذا التأليف المنسجم، والذي لم أر مثله من قبل، بين التقاليد والعادات العريقة الموروثة، وبين القيم الغربية الرأسمالية الاستهلاكية الحديثة، فاليابان استطاعت أن تجمع بين المتناقضات، وأن تحتوي إيديولوجيات متعارضة: الشنتوية والبوذية من جهة، والليبرالية والرأسمالية من جهة ثانية.
فقد اختارت تبني الرأسمالية على الطراز الأمريكي مباشرة بعد خروجها من هزيمة نكراء في الحرب العالمية الثانية، لكنها عكس معظم الدول الآسيوية والعربية، التي وإن خرجت من الاستعمار السياسي، بقيت راضيةً بالاستعمار الاقتصادي.إن اليابان نجحت في فهم اللعبة الرأسمالية القذرة، وبسرعة فائقة تمكنت من الانسجام معها، وبفضل ذلك استطاعت أن تطور قطاعها الصناعي لترفع من الإنتاج الوطني، وهو ما سمح لها بأن تصبح ثالث قوة اقتصادية من حيثُ الناتج الإجمالي المحلي.
و غدت شركاتها، اليوم، تنافس كبريات الشركات العالمية، بل وتتجاوزتها، لتتربع بهدوء على قائمة الدول المصنعة، في وقت قياسي لم يتجاوز الأربعة عقود. هذا، مع الأخذ بعين الاعتبار، أنها دولة لا تتجاوز مساحتها نصف مساحة المغرب، وهي بدون موارد طبيعية و 20٪ من أراضيها فقط تصلح للزراعة والسكن. أما المفارقة الثانية فهي أن هذا التـفوق الياباني في الأسواق الاقـتصادية الدولية تزامن مع تـفوق آخر في النـتائج الأخلاقـية والاجـتماعية بالمقارنـة مع نظيراتـها في الدول الغربية المصنعة.
فاليابان حققت نوعا من التوازن الصعب جدا بين حياة اللامعنى التي تطبع المجتمعات الاستهلاكية الغربية، وبين القيم والمعاني السامية المستمدة من الشنتوية والبوذية -وهما الديانتان السائدتان في اليابان- والكونفوشية قديماً ومن الموروث الثقافي – ثقافة الساموراي مثلا – المترسخ في اللاوعي الجماعي الياباني، والذي تشكل عبر قرون في المخيال الشعبي الياباني.
وأنت، عزيزي القارئ، حين تأتي زائراً إلى اليابان، أول ما سيلفت انتباهك هو نمط الشخصية اليابانية التي تتسم بالكثير من اللطف، وبالاستعداد للمساعدة والانضباط في الوقت، والتفاني في العمل والأخلاق العالية. فالياباني، مثلا، لن يقبل منك “الإكرامية” التي تقدمها له بعد أن يقوم بخدمتك في مطعم، إذ يعتبرها نوعا من الإهانة، وكأن الأمر بالنسبة إليه أشبه بتلقي أجر على شيء لم يفعله، وهو ما يجعل الأمر بالنسبة إليهم محرجا ومهينا.ومن الأمور التي يلاحظها أي زائر لهذا البلد أيضا، وخاصة في مدينة طوكيو، أنه لا توجد حاويات الأزبال؛ فكل شخص، عند خروجه من بيته، يأخذ معه كيسا يضع فيه الأزبال إلى أن يقفل راجعا إلى بيته، وهو ما يجعل الحاجة إلى وجود حاويات للأزبال في الشوارع منعدمة.
إن هذا الحس الأخلاقي العالي الذي يتمتع به هذا الشعب محيّر ومثير للإعجاب بشكل يَخرُج عن حد الوصف، بل لعله يثير الريبة والشك؛ إذ المثل الياباني يقول: ”لا يبالغ في الأدب إلا شخص غير مؤدب”، فإلى أي حد يمكن أن تكون هذه الأخلاق واجهة للتغطية على أشياء أخرى لا تظهر في العلن عند اليابانيين ؟ في الواقع، الكثير من الإحصائيات ليست جيدة بالنسبة لليابان، فهي تصنف ضمن الدول الأعلى في معدلات الانتحار، وفي نسب الانحرافات الجنسية، وكذا في مؤشر رفض المهاجرين وعدم القبول بإدماجهم !! ومما سيثير انتباهك بكثير من الدهشة ما ستراه في شوارع طوكيو من انعزال الأفراد وانطوائهم على ذواتهم؛ فالكل يمشي لوحده ويأكل لوحده، ولن ترى تواصلا أو تفاعلا بين شخصين إلا نادرا،؛
كل شخص منطوٍ على نفسه، منعزل مع هاتفه. وبخلاف ما نراه في دول غربية أخرى، اليابانيون غالبا ما يقضون أوقاتهم في الشارع أو في المواصلات العامة وهم يلعبون في هواتفهم، وسواء في ذلك الكبار والشباب والصغار. والأمر نفسه ينطبق على إدمان المونجا/ الرسوم المتحركة، فتجد الشخص، وإن كان كبيرا، وله وظيفة مرموقة، إلا أنه لا يزال متشبثا بتلك الثقافة، إلى درجة أنه قد يخيل إليك، وأنت الغريب عن ثقافة هذا البلد، أنه طفل صغير، وهو في الواقع إنما يحاول أن يخرج من ضغط الحياة بالهروب إلى عالم الأطفال والألعاب واللهو.وأنت في القطار، تختلس النظرات في ملامح الناس، سوف لن تُخطئ عينُك ذلك العياء الشديد الذي يستوطن ملامح وجوه الموظفين، وخاصة في القطارات وقت العودة من العمل.
وتعتبر اليابان من الدول التي تعرف مستويات عالية من الانتحار بسبب العمل، أو بنوبات قلبية من كثرة العمل “كاروشي”. وتشير الإحصائيات إلى أن هناك أشخاصا في اليابان يعملون أكثر من ألفي ساعة في السنة الواحدة، وهو معدل كبير جدا. غير أنه، حسب معلوماتي، فإن اليابان تحاول جاهدةً التخفيف منه والحد من آثاره السيئة على الصحة النفسية للمواطنين، ولذلك منحت ستة عشر يوما كعطلة رسمية زيادة على العطل السنوية وبذلك تعتبر من أكثر الدول منحا للإجازات.
إن ضغط العمل الرهيب يجعل اليابانيين، مباشرة بعد انتهاء أوقات العمل، يبحثون عن متنفس لهم للترويح عن أنفسهم، وغالبهم يلجأ إلى السُّكْر، ولذلك حين تقصد شوراع طوكيو ليلا، ستجد الكثير يتمايلون وقد ثملوا من رفط الشرب، كما أن الحانات الليلية تعرف حركية وإقبالا كبيرين؛ في محاولة من الجميع للتخلص من ضغوطات اليوم المضنية.هذه بعضٌ من اكتشافاتي الأولى لشعب اليابان، والأيام القادمة حبلى بمزيد من الأشياء الجديدة حول هذا الشعب الفريد في هذا الكوكب العجيب.