وَمَا يُعْطِينا المُعَلِّم؟!
سَواءٌ اتَّفَقْتَ مع هذه الكلمات أو عارضتها، فأنتَ الآن تقرؤها، ولولا مَن عَلّمَكَها ما استطعتَ، فإذا اتفَقتَ أو عارضتَ لأي سبب فهذا في حد ذاته قدرة على التحليل والنقد، والذي لا بد أن أبجدياتهما أخذتَها من معلم ما، كان مَن كان ذاك المعلم.
غالبا إذا ما سألت طفلا، أو فتى في أيامنا هذه، وخَيَّرتَه بين أن يصير معلما أو أن يكون نجم سينما أو مغنيا مشهورا أو لاعب كرة قدم محترف لاختار الثانية على الأولى.. وإذا استحضرنا الواقع، وغلبة التأثير إعلاميا وقيمياً، لالتمسنا له كل العذر، بل لجعلنا معه كل الحق.
ما الذي يُغري النَّشءَ على التعلم للوصول لوظيفة كنا نصفها بالشريفة، وهو يرى نجمَ الكرة يجني في يومِه ما لا يجنيه المعلم في سنة مُضْنية مُتْعِبة.. طبيعي أن يختار الأكثر دخلا ماديا في عالم رأسمالي محض، واضرب بوظيفتك الشريفة عرض الحائط، في امتثال صريح لقول الشاعر أبي هِفّان:
المالُ يَسْتُرُ كُلَّ عَيْبٍ في الفَتَى *** والمالُ يَرْفَعُ كُلَّ وَغْدٍ سَاقِطِ
فَعَلَيْكَ بالأموالِ فاقْصدْ جَمْعَها *** وَاضْرِبْ بِكُتْبِ العِلْمِ بَطْنَ الحَائطِ
ولأنّ ليسَ كلّ ما يَشيعُ حقيقة، وإنْ آمن الناس كلهم بفكرة ما، ليس مسوغا على أن تلك الفكرة صحيحة، والإمعان بالفكر والنظر بعمق، مخالف لانجراف الدهماء وراء ما تفرضه قوى إعلامية أو تسويقية ممنهجة، سيبقى المعلم عماد المجتمع الذي لا يقوم إلا به، وعلى الحكومات قبل الجماعات والأفراد أن تعي ذلك، وتجدد النية على رفع قيمته الاعتبارية والمادية، هذا ما تنهجه الدول المتقدمة، حتى حافظت على ريادتها، وما يجب أن تعيه الدول المتخلفة إن أرادت بناء الإنسان والعمران، والتقدم في مصاف مؤشر التنمية.
تجدر الإشارة هنا أننا نتحدث عن المعلم ليس بدعا عن باقي المهن الأخرى الشريفة… بل حديثنا عنه كونه مَشْتَلاً لكل هؤلاء، ساقٍ لهم كلهم، فمن لم يأخذ منه علما أخذ منه خلقا أو قيمة أو مبدأ، فهو المفتاح لكل هذه الأقفال، يقول لي كوان رئيس سنغافورة، الذي اشتهر بصفته مؤسس الدولة وناقلها من العالم الثالث إلى العالم الأول خلال أقل من جيل: “إلى أي درجة كانت سنغافورة الستينيات قاسية: فقر ومرض وفساد وجريمة، بيعت مناصب الدولة لمن يدفع، خطف الشرطيون الصغيرات لدعارة الأجانب، وقاسموا اللصوص والمومسات فيما يجمعون، احتكر قادة الدفاع الأراضي والأرز، وباع القضاة أحكامهم، قال الجميع: الإصلاح مستحيل، لكنني التفتُ إلى المعلمين، وكانوا في بؤس وازدراء، ومنحتهم أعلى الأجور، وقلتُ لهم: أنا أبني لكم أجهزة الدولة، وأنتم تبنون لي الإنسان”، لقد وعى لي كوان يو أن إصلاح أي قطاع لن يخلوَ من فشل، لذلك بدأ بالمنبع الماسِّ لكلها، والنتيجة هي ما ترى عليه سنغافورة اليوم، في نموذج يُدرَّس لكل من أراد إصلاحا فعليا حقيقيا، لا نظريا مزيفا، في أقل من جيل رفع لي كوان يو البلد من دول العالم الثالث إلى مصاف دول العالم الأول، فافْهَمْ وعِ.
التعليم لا يُعطي نتائج سريعة، ولكن هو طريق استثمار المستقبل المتوسط، تراهن عليه اليوم وتحصد نتائجه بعد حين، وصناعة الإنسان ليست هي صناعة الأعيان.. النظر للتعليم بعين الكسب المادي يُرْدِي ولَو بعد حين، والدولُ المراهنة على بناء العمران، تبني قبلا منه الإنسان، وهذا سِرُّ النقلة النوعية في النموذج السنغافوري، يذكر لي كوان يو في مذكراته: «أنا لم أقم بمعجزةٍ في سنغافورة، أنا فقط قمت بواجبي، فخصصت موارد الدولة للتعليم، وغيرت مكانة المعلمين، من طبقةٍ بائسةٍ إلى أرقى طبقة في سنغافورة، المعلم هو من صَنَع المعجزة، هو من أنتج جيلاً متواضعاً يُحب العلم والأخلاق، بعد أن كان شعباً يبصق، ويشتم بعضه، في الشوارع».
لذلك، فإذا أردت أن تصنع جيلا مبدعا قادرا على الخلق والرقي، يجب أن يكون الصانع على قدر من هذه الأهلية، وإلا ففاقد الشيء لا يعطيه.. اهتمامك بالمعلم من صلب اهتمامك بالتعليم، فهو الرائد، وهو القدوة، وليس عبثا أن تلجأ الدول المنصفة إلى إعلاء أجور معلميها، ليس لإعلاء قيمتهم المادية، وإنما لإعلاء قيمتهم المعنوية الاعتبارية، حتى لا يسوغ لمعلم أن يبحث عن دخل آخر غير ما يمارسه في القسم، فلا يركز الجهد إلا على تطوير نفسه وتكوينها وإشباعها بكل ما يحتاج إليه متعلميه، من طاقة إيجابية وأفكار ومبادئ، حتى يبقى عزيز النفس كريما، ويرى فيه النّشْءُ العزةَ والشموخ والإباء، والصدق في القول قبل العمل، حتى يُكسِبهم قوة في الشخصية، وقدرة على المسؤوليات، صدق المهدي المنجرة رحمه الله حين قال: “إن الذي يعمل في مجال التربية والتعليم عليه أن يبقى مرفوع الرأس؛ وعلى من طأطأ رأسه أن يبتعد عن التعليم”.
إن تبديل المناهج والمقررات، أو تغيير لغة التدريس، أو استيراد بيداغوجيات دول متقدمة، أو حتى التطوير من البنيات التحتية للمؤسسات قصد إحداث تطور في النظام التعليمي؛ كل هذا عمل لا بد منه، ولا يُنكَر فضله، لكنه يبقى قاصرا ما لم تلتفت إلى من سيُنَزِّل لك هذه التغييرات، من سَيُتَرجِمها على أرض الواقع، اعطِ للمعلم مكانة مرموقة وسيضحي -كما ضحى- في إنكار تام للذات قصد تبليغ رسالته، اجعله قدوة وسينتج لك نسخا من القدوات، لطالما تغنينا بالنموذج الياباني، ووصفنا سكانه بسكان كوكب اليابان، في إشارة خفية إلى المفارقة بينهم وبين سكان باقي الدول، السر كله يكمن في نمط التعليم الياباني، الذي يجعل من المعلم حقا محور التطور، فهو يحظى بالاحترام الواسع في جميع طبقات المجتمع، إذ يصل درجة التقديس خصوصا خلال حكم “ميجي”، أما حاليا فعندما يدخل المدرس إلى القسم، يقف جميع الطلاب وينحنون احتراماً مُرَدّدين: “يا معلمنا، نرجو أن تتفضل علينا، وتعلمنا.”
وحتى مجتمعيا، للمعلم مكانة عليا، ابتداء من الأسرة، إذ يقوم الوالِدان بزراعة هذا الاحترام في نفوس أبنائهم منذ السنوات الأولى للدراسة.. مما يُعطي للمعلم سلطة كبيرة في تعامله مع طلابه في كافة المراحل.
لذلك فأي نهضة هي بالمعلم أولا، وأي ادعاء للتنمية دون إدخال هذا الطرف هي عرجاء قاصرة، قد تبني لي طبيبا ورجل أمن ومهندسا وبَـنَّاءً… ولكن لا جدوى إن كانوا بفراغ قيمي وروحي استمدوا أصوله من المدرسة بدءاً.