عندما أصبت بفيروس كورونا!

من اللحظات التي لا بد أن نمر منها في حياتنا لحظات المرض والضعف والشعور بالعجز. ومع كونها لحظات طبيعية وجزءا لا يتجزأ من الحياة إلا أنها نادرا ما تكون موضوعا لكتابة فكرية أو أدبية. فالناس غالبا تتجنب الحديث عن هذه اللحظات باعتبارها تنتمي إلى غير المرغوب فيه في حياة البشر. وقد اكتشفتُ من تجربة عملية أن الناس عموما لا يحبون القراءة حول الأمراض وما يتعلق بها من قصص. قد يكون ذلك راجعا إلى خوفهم من أن يكتشفوا أنهم مرضى دون أن يكونوا على وعي بذلك. ولكن وظيفة الأطباء في عصر تقنيات التواصل السريع والفعال أن يواجهوا هذه الثقافة ويقاوموها، حتى يقتنع الناس أن الحديث عن الأمراض ليس أمراً محرَّماً، ولا يُخشى منه بأسٌ، بل هو وسيلة فعّالة لدفع الناس إلى الاعتناء بصحتهم، والالتزام بكل وسائل الحماية والوقاية، والمسارعة إلى الكشوف والفحوصات المبكرة عن المرض.
وفي هذا المقال، سأكشف لك عزيزي القارئ عن تجربة شخصية مع الإصابة بفيروس كورونا المستجد، فقد حاولتُ في عز المرض أن أخطَّ بعض الأفكار التي كانت تراودني وأنا في غرفتي معزولا عن العالم. كان الأمرُ بالنسبة لي أشبه بسجنٍ -لا أقول: إرادي؛ لأنني لم أختره، بل فرضه علي ضميري وواجب حماية أهلي وعائلتي وأبناء وطني- كانت سرعة الزمن بطيئة للغاية حتى خُيِّل لي أن اليوم قد أضيفت إليه بعض الساعات، أو لم يعد القياس بالدقائق والثواني، بل بمعيار زمني آخر. ولم يكن لي من ملاذٍ في هذا الوضع إلا الرضا، كان هو البلسم والترياق. نعم، لا أحدَ يُمكن أن يفرح بالمرض، أو يتمناه؛ فإذ نزل القضاء، وأصبح جسم الإنسان منهكا، ومزاجه مضطربا، وأصبح يشعر بفوضى في وظائف أعضائه وفي كامل جسمه، لا يكون هناك من خروج إلا الرضا وضبط النفس والاحتساب عند الله تعالى. والصحة والحرية أغلى ما يملكه الإنسان؛ فإذا فقدهما معاً فقد فقد رأس ماله كله. وشديدٌ على الإنسان أن يُسلَب النعمة بعد التشبّع بها، وأن يُبتلى بالنقصان بعدَ أن كان قد اعتاد الزيادةَ وتطبّع معها.
كانتْ إحدى ليالي شهر أبريل، أحاول النوم ولا أستطيع إليه سبيلا، صداعٌ كبير في رأسي يمنعني من ذلك، كان صداعا مفاجئاً، ولم أستطع إرجاعه إلى سبب معين في البداية، لم أستطع التفكير بشكل واضح -وما أصعب التفكير بشكل واضح حتى في الأحوال العادية-! كان شعوراً مريراً بالضعف، وخاصةً بعد توالي الأعراض: عياء شديد، تلاه ارتفاع في درجة حرارة الجسم، ثم تعرُّقٌ، ثم سعال حاد، فـارتفاع ملحوظ في عدد نبضات القلب، ومع الوقت بدأت أستشعر عسرا خفيفا في التنفس.
ربما لو لم أكن طبيبا لفكّرتُ كما يُفكر عدد من الناس: “البارحة، تركتُ نافذة غرفتي مفتوحة طوال الليل، فأُصبت على إثرها بنزلة بردٍ”. تشخيص سريع للمرض يقوم به المريض بنفسه، ويريدك أن تقتنع به وتُسمعه ما يريد، ثم تعطيه وصفةً مناسبة. لكني أعرف هذه الحيل النفسية التي لا تكون واعية لدى كثير من الناس، والتي انتشرت منذ بداية انتشار الفيروس في هذا البلد. ليس هناك مجال للشك في أن هذه أعراض الإصابة بفيروس كورونا المستجد. والنتيجة كانت واضحة: يجب أن ألغي كل ما تمت برمجته سابقا، كل المواعيد والعمليات الجراحية المبرمجة، وأن أعزل نفسي على الأقل لأسبوعين، وألزم غرفةً واحدة، أترقب تطور الأعراض واستقرارها، فإن تفاقم الوضع وبدأت أستشعر قصورا في التنفس ذهبت حينها إلى المستشفيات المخصصة لمرضى هذا الفيروس.
الأصعب في الإصابة بهذا الفيروس هو حالة الغموض التي يدخل فيها المرء، لا يدري ما يقع غداً: قد تتطور حالته، وقد تستقر، وقد يُشفى كليةً من الأعراض، لكن الخوف من المجهول يظل ملازما له، خاصة مع كثرة الأخبار والتهويل الذي كان يلازمها. في مثل هذه الحالات، ندرك قيمة تلك الرتابة التي كنا نشكو منها في حياتنا؛ حين يكون كل شيء مهيأ بشكل معروف لدينا سلفاً، إذ ننام ونحن نعرف كل ما سنقوم به طوال الأسبوع، وفقاً لبرنامج محدد بشكل صارم، بالأيام والساعات والدقائق. وربما يكون من مزايا المرض أن نتذكر ونستشعر قيمة النظام في حياتنا، أهمية الرتابة في استقرارنا النفسي، أن نرى الجوانب الإيجابية في الوضوح الذي يلازم تلك الرتابة. التكرار شيء لا بد منه في حياتنا؛ كثير من البطولات التي تحققت في حياة البشرية طوال تاريخها يرجع الفضل في جزء كبير منها إلى الرتابة وتكرار العمل مرة بعد أخرى. ونحن ممتنون لإتقاننا لمهنتنا إلى هذه الرتابة وهذا التكرار؛ فلولاه لـمَا كان هناك طبيب أفضل من آخر، ولا لاعب أفضل من آخرين، وقِس على ذلك. البراعة والمهارة والإبداع والإتقان في إنجاز العمل كلها أمور تأتي من التكرار الواعي الذي يقصد إلى تجويد المنجز بقدر المستطاع.
بعد مرور يوم على بدء شعوري بصداع شديد على مستوى الرأس، شرَعتُ أشعر بجسمي كله ثقيلا، أصبحتُ منهكاً وكأنني خسرتُ للتو في نزال للملاكمة، بعد أن أبرحني مايك تايسون ضرباً، كل جوانب جسمي تـئنُّ، لازمتُ الفراش في اليومين المواليين، ولم أكد أخرج من سريري. وبالإضافة إلى شعوري بالتعب، كان الصداع والضغط في رأسي يتزايد كل يوم، ثم بدأت أشعر بانتفاخ في اللوزتين، وآلام في الحلق وغثيان. شُلّت حركتي، وأنا بطبيعتي إنسان حركي نشيط، مصاب بفرط الحركة الزائد في صغري، وفجأة أجد نفسي محاطاً بأربعة جدران لا أستطيع تجاوزهما.
وبينما كنتُ أشعر بالعجز، كان جسمي يقاوم الفوضى بداخله، وأنا منهمك في التفكير في الاحتمالات المقبلة، أستحضر الاحتمالات السيئة الممكنة، ربما من فرط واقعيتي، وربما من باب الأخذ بالاحتياط وتهييئ النفس لأسوأ الاحتمالات، حتى إذا ما وقع منها شيء -لا قدر الله- أكون قد توقعتُه. ولعل المثير للدهشة أن المرء بعد أن ينتهي كل شيء، سرعان ما ينسى ويعود إلى ممارسة حياته كما اعتادها من ذي قبل؛ والأصل أن تَجعلنا هذه اللحظات الصعبة نعيد التفكير في حياتنا، وفي تفاعلنا مع مجرياتها، وفي رؤيتنا للمستقبل وما ينبغي أن يكون عليه. ما أكثر التجارب الصعبة التي يمر منها المرء فتجعله يدرك حجم الغفلة التي هو فيها، فيحلف بالأيمان المغلظة ويقطع المواثيق والعهود على نفسه أنه إن نجا هذه المرة فسوف يُغير كل شيء في حياته، وسيعيد ترتيب الأولويات في حياته، وسيتخلى عن عادات قديمة سيئة، ويخلق عادات جديدة إيجابية، لكن ما أن يمضي وقتٌ قصير ويستعيد عافيته وتوازنه حتى يعود إلى سابق عهده، ناسياً كل الأيمان والعهود التي قطعها على نفسه! وذلك طبع الإنسان الجاحد الذي خلّده القرآن: {لئـِن أنجَــيْتَنَا من هذه لنكُوننَّ من الشاكرين فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ} [يونس: 22-23].

كان عليّ أن آكل كل حينٍ حتى أستطيع تناول أدويتي، وشهيتي ضعيفة للغاية لا تساعدني على الإقبال على الطعام، ولذلك أصبح أكلُ الطعام بدوره نوعاً من التعذيب الذاتي غير المباشر. حاولتُ بصعوبة أن أجلس على حافة الفراش، وظللت على تلك الحال برهةً من الزمن، أحاول أن أستجمع قواي المتبقية حتى أستطيع أن أقف، بعدها توجهتُ متمايلا كالسكران إلى المكان الذي يوجد فيه الدواء. لم أستطع أن أركز على كل الأدوية التي أمامي، لكني كنتُ متأكداً أنني أبحث عن مسكن للآلام وعن فيتامين-س. بعد ذلك، جلستُ إلى الأرض، وبدأت أشعر برغبة شديدة في التقيؤ، كنتُ على وشك أن أفعل، ولكن في النهاية لا يحدث من ذلك شيء. أكره ذلك الإحساس المنهك؛ الشعور بالضيق والغثيان ثم لا شيء يحدث لترتاح. أخيراً، جاء الفرج، وفعلتُ. لا داعي لأن أكرر الكلمة حتى لا أفسد عليك مزاجك عزيزي القارئ. وبعد ذلك، جربتُ أن أستلقي على الأرض، وحقا لقد شعرتُ براحة كبيرة جدا.
استمرأت وضعية الاستلقاء على الأرض، وبقيت على تلك الحال لمدة عشر دقائق أشاهد سقف البيت، وأستمتع بذلك الشعور الجيد. لحينٍ، شعرت أنني قد مارستُ الجنس للتو، أو هو شعور مشابه على الأقل. والإنسان أسيرُ رغبتين رئيستين: رغبة الإدخال ورغبة الإخراج، أو إن شئت قلت: رغبة الإملاء ورغبة الإفراغ، يقضي معظم حياته يكد ويتعب لكي يحس بهذه الراحة الوجيزة بعد عملية إدخال أو إخراج، عندما يأكل ويشرب، أو عندما يقضي حاجته أو يقضي وطرَه، أو بالأحرى مختلف حوائجه.
بعد بحث بسيط، استطعت أن أجد الأدوية: مسكن للآلام، فيتناميات، ومضاد للقيء. تناولتُها ثم شرعت أتأمل فيها وفي أغلفتها. ولا ينبغي أن تستغرب أيها القارئ، ففي مثل هذه الحال يُصبح كلُّ شيء مادة مهمة للتأمل. وفيمَ أقضي نهاري إذا لم أقضه في التأمل في هذه المواد التي أصبحت جزءا مهما في حياتي، بل قد أصبحت حياتي تتوقف عليها. قرأت كل شيء مكتوب عليها، ثم تأملتُ في ثمنها، لاحظتُ أنها أدوية رخيصة. وفجأة تذكرتُ أحد أصدقائي الأعزاء الذي يعمل في أحد مختبرات الأدوية المعروفة عالميًا، كان قد حكى لي عن معاناة المرضى المصابين بداء غوشيه، وهو من أمراض الاختزان الوراثية ينشأ نتيجة لخلل في عمل أنزيم اسمه غلوكوسيريبروزيد، مما يسبب تراكم مادة الغلوكوسيريبروزيد في الطحال والكبد والنخاع العظمي […] وإذ ذاك يحتاج المريض إلى جرعة من هذا الأنزيم كل أسبوعين. والمشكلة أن تكلفة كل جرعة من هذا الأنزيم تبلغ ثلاثين ألف درهم؛ أي ست ملايين سنتيم شهريا، ويجب أن يأخذ المريض هذا الدواء مدى الحياة!
أمر مثير للدهشة والاستغراب، ويدعو للتأمل حقا، هذا أنزيم واحد فقط، ضمن ألف وثلاثمئة أنزيم من الإنزيمات المختلفة الموجودة في الخلية البشرية، تنتجها وتتوفر عليها أجسامنا، ولا ندفع شيئا في مقابلها، وبسبب وجودها نتمكن من السمع والبصر، والشم والذوق، واللمس والشعور والتفكير، دون أن نستشعر قيمتها. هل نحتاج إلى أن نعمل في مختبر عالمي لصناعة الأدوية أو أن نكون أطباء حتى نُدرك أن هذا الجسم الذي خلقنا الله فيه هو معجزة هائلة، وأن تنسيق وظائف أعضائه ومكوناته شيء لا تسعه كل دهشة الدنيا؟ ربما نعم، وربما لا. لكن المؤكد أن العلم كلما تطور إلا ويفتح لنا أبواباً جديدة للفهم في قضايا وجودية لازمت الإنسان منذ وجوده، ولا يزال يُنبئنا أننا إذا أردنا البحث عن أدلة لعظمة الخالق فلا أدلَّ على ذلك من النظر في أنفسنا وأجسادنا.
بعد أن أخذت الأدوية اللازمة رجعت إلى فراشي، وبقيت أتقلب لمدة طويلة، محاولا أن أجد موضعاً مريحاً لعلني أنام، لكن دون جدوى. شرعتُ في القيام ببعض العمليات الحسابية في ذهني؛ معدل الوفيات لهذا الفيروس فيمن هم في سني لا يتجاوز 0.4%، وهو رقم مطمئن ظاهريا، ويمكن أن يجعلني هذا الأمر أنام بهدوء واطمئنان. احتمال أن يحصل لي مكروه من بين 99.6% من الحالات احتمال ضعيف للغاية، خاصة وأنني بحمد الله في صحة جيدة. كنت أبحث عن أي معطى لكي أشعر بالراحة وأنام. إلى حدود ذلك الوقت، كان قد أصيب بالفيروس حوالي خمس مليون شخصا في العالم، وهو رقم يبدو مطمئنا وضعيفا جدا. لكن من أصيب بهذا الفيروس وتطورت لديه الأعراض لا يبدو له هذا الرقم كذلك، خاصة حين نعلم أن كل حالة مرضية بهذا الفيروس لها تطورها الخاص، وليس هناك معطى يمكن تعميمه على كل الحالات. غير أن الناس في الغالب يحبون الركون إلى بعض الأرقام التي تُشعرهم بالاطمئنان، وتُوهمهم أنهم في منأى عن أي مكروه، وبعيدون عن أن يكونوا مشمولين بأية إحصائيات سلبية. ولا بأس في ذلك، طالما أنه يخفف عليهم من الضعوطات النفسية.
ورغم كل الاطمئنان الذي أحاول أن أقدمه لنفسي بتحليل الإحصائيات المتعلقة بهذا الفيروس، إلا أنني ظللت أعي أن الأمر في الأخير لا يخلو من ثلاثة أشياء:
ــ البقاء في البيت إذا تطورت الأمور إيجابيا؛
ــ الاستشفاء إذا ما لم تنخفض درجة الحرارة أو بقيت الأوضاع مستقرة؛
ــ العناية المركزة إذا ما تفاقمت الأوضاع بشكل سيء، لا قدر الله.
والقبر مأوى كل ابن آدم إذا ساءت الأمور بشكل كبير، ولا اعتراض على أقدار الله. وما أصدق قول الشاعر:
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ
يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ.
1xbet casino siteleri bahis siteleri