لا يحيا إنسان لا يعرف باطنه

يواجه الكثير منا صعوبة في التعرف على ذاته، فإن سألت شخصاً قريباً منك عن أهم ثلاث خصال تميزه وثلاثة عيوب تشينه، ستجده بكل عفوية يسرح بنظره في السقف ويطوف بعينيه في أرجاء الغرفة، ولربما فرك يديه المتعرقتين وضحك تلك الضحكة التي إن دلت على شيء فهي تدل على حيرته في البحث عن صفاته، وجل الأشخاص -لكي لا أقول كلهم- سيحاولون ذكر صفات مكررة تتسابق إلى أذهانهم ما إن يسمعوا كلمتي “خصال وعيوب”.. صفات من قبيل: متفائل، صادق، وفيّ، عصبي.. إلخ من الصفات التي ألفنا كتابتها في دفاتر ذكريات غيرنا. لكن هل حاولنا فعلاً التعرف على أنفسنا؟

من الطبيعي جدًّا أن نجد صعوبة في معرفة ذواتنا، وهي مشكلة في حد ذاتها وإن كانت مشكلة طبيعية.. فإن أردت مثلاً التعرف على شخص، فليس من الضروري أن تتقن علم الفراسة أو تستوعب فنون القيافة، بل بكل بساطة تعامل معه، وبهذا ستحكم على ذاته من خلال مواقفه وردود أفعاله، إذن فمعرفة الذات تكمن في التعامل معها.

هل جربت يوماً التعامل مع نفسك مثلاً كأن تناقش موضوعاً ما معها، واكتشفت أن نفسك تصبح عنيفة النقاش حادة الطباع؟ هل جربت أن تأمن نفسك على سر، فوجدت أن نفسك تفشي الأسرار وتنسف الأعراض؟ هل جربت أن تسيء إلى نفسك بأوصاف قبيحة، فوجدت أنها ثائرة عند الغضب فتخاصمت معها؟

40ce96627e2a59381507324cc14e8c38

مقالات مرتبطة

في الغالب لم نقم بذلك، ولو قمنا به أمام الناس لاتهمنا بالجنون، وتفادياً لهذه التهمة يمكن أن تعرف نفسك أو تعرف غيرك في لحظة اختيار حر، حر من رقابة المحيط والمجتمع … حر من رقابة السلطة.. حر من رقابة القانون.. حر من الرغبة.. من الرهبة.. إلا من الله تعالى -هذا إن كان صاحب الاختيار مؤمناً- فمثلاً عندما نجد حاكماً مسلطاً في بلده، شديد زمانه، لا معقب لحكمه ولا خروج عن أمره، وابنه ظلم أحد المساكين فسطا بابنه وأشد به أشد العقاب ينزل بأمثاله من الظلمة.. هذا فعل حر.. هذا إنسان يعرف قدر نفسه، ونعرف ذاته من رد فعله هذا. عندما نجد شابًّا وقعت عيناه على مال سقط من رجل كان أمامه بدون أن ينتبه لذلك، فأمسكه ولحق بالرجل ليعيده له.. هذا اختيار حر.. هذا خليفة الله في الأرض.. هذا المحترم النبيل.. هذا الإنسان!

كما قال أفلاطون “لا يحيا إنسان ما لا يعرف باطنه” وبالتالي من عرف باطنه عرف بواطن الأشياء، وفهم محيطه أكثر وأتقن فنون التعامل مع الآخر بعمقه الإنساني، فمعرفتك بنفسك ستشيد بك إلى معرفة ذوات أخرى وإدراك عمقها ومحاكاتها إنسانيًّا مدركاً صعوبات كثيرة ومشاكل كبيرة يواجهها الناس في التعامل مع الآخر.

قد يحيى الإنسان عمراً كاملاً دون التعرف على ذاته ودون الوصول إلى جواب كامل عن ذاك السؤال الذي يستدعي الصمت أحياناً: “من أنت؟”.. سؤال بسيط من كلمتين يجعلك تتيه في بحور التفكر والتأمل باحثاً عن الجواب.

tumblr_l1ql53b4Kp1qaobbko1_500
الجواب عن هذا السؤال يتطلب منك امتلاك ثلاثة عناصر ألا وهي:
حب الذات البعيد عن الأنانية التي تشوّه عمق الإنسان وتستحوذ عليه بمساوئها، فحب الذات ينتج عن تحديد الإنسان لذاته كقيمة إنسانية بغض النظر عن الإيجابيات والسلبيات، إذ إن القيمة الإنسانية تكمن في ذاتها وليس بعمل الإنسان.
عدم التقيد بنظرة الآخر السلبية، فيجدر بالشخص ألا يخنق ذاته بنظرة الآخر وعدم السماح لها بتقييد انطلاقته كإنسان، وكذا عدم جعلها هاجساً مستمراً.
الثقة بالذات التي تمكّن الإنسان من رؤية ذاته على حالها، فيعرف نقاط ضعفه ونقاط قوته، فيعزف عن الأولى ويستخدم الثانية في سبيل تحقيق إنسانيته التي يصبو إليها.

الإنسان مخلوق مليء بالخفايا والأسرار توافقاً مع التعبير الرباني {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَان فِي أَحْسَن تَقْوِيم} [التين: 4] وجعله الله سبحانه وتعالى من أهل الكرامة بنصفيه المادي والمعنوي. لذا، من الضروري بل الواجب على كل واعٍ أن يعرف ذاته وحقيقته، لأن هذه المعرفة تساعده على تطوره وتقدمه في مجالات الحياة كافة، ومدى إمكانية التهيؤ للارتقاء في مدارج الإنسانية الصالحة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri