لن أعيش في جلباب أبي..

882

كثيرا ما يحدث أن نرى صورا قديمة لنا، فنستغرب من أنفسنا! هل حقا لبسنا هذه الملابس التي كانت رائجة يوم التقطت الصورة؟ هل حقا كنا نصفف شعرنا هكذا؟ هل حقا كنا نرتدي هذه النظارة الغريبة التي لا نفكر أصلا في شرائها اليوم؟!

أشياء كثيرة سننتبه لها لو راجعنا صورنا القديمة، أشياء يمكن أن توضع في ملف اسمه: “أشياء كانت مناسبة في وقتها..”؛ الأمر واضح مع الملابس والأشياء المادية أكثر، لكن! ملف الأشياء الذي كانت تبدو مناسبة وقتها يمكن أن تتوسع فيها لكن أقل وضوحا، يمكن أن يضم أفكارا أو مواقف تبنيناها ذات يوم بحرارة، ونضحك منها اليوم؛ لقد كانت تبدو لنا على الأقل مناسبة جدا، وربما يشمل الأمر أشخاصا أدخلناهم لحياتنا وجعلناهم أصدقاء، كانوا يبدون مناسبين وقتها، واليوم نتأمل في الفوارق والاختلافات الصارخة بيننا وبينهم، ونقول رباه! كيف كنا نفكر؟

ربما يضم الملف أيضا مشاريع دخلناها بحماس ونحن نحلم بنجاحات كبيرة، واليوم نتأمل ونقول: كيف لم ننتبه أن فشلها كان حتميا، وأن كلمة فشل كانت مكتوبة على جبين المشروع؟ إذا كان ذلك مناسبا وأنت في العشرين، ولم يناسبك وبدا مضحكا وأنت في الثلاثين، فكيف بما كان يناسب والدك وهو في العشرين؟! الأمر بديهي وواضح وبسيط ولا يُختلف عليه، لكننا لا نجد خلافا بين اثنين وحسب، بل صراعا للأجيال حول هذا، رغم أنه بديهي وبسيط ومنطقي.

يحدث كثيرا أن ثمة جيلا يريد أن يفرض رؤيته للحياة على الجيل الأصغر، وغالبا ما تكون هذه الرؤية ليست خاصة بهذا الجيل، بل قد ورثها عن الجيل السابق، وهكذا دائرة مفرغة من الرتابة والتكرار، دائرة مفرغة، تلتف مثل الحبل على رقبة الحياة نفسها؛ أغلب الخلايا في جسم الإنسان تتجدد باستمرار، تتجدد بمعنى أنها تستبدل بأخرى، بعضها يتجدد خلال أسابيع وبعضها يتطلب أكثر، لكنها عملية مستمرة، باستثناء خلايا الدماغ، فإن خلايا كل جسم الإنسان تستبدل عدة مرات في حياة كل منا، التجدد علامة من علامات الحياة نفسها، استمرارية الحياة تتطلب التجدد؛ والاستمرار بالرؤية المتوارثة عبر الأجيال دون تجديد انتحار بطيء، وهذا الانتحار البطيء متنكر غالبا بشعارات حب الأجداد وتمجيدهم.

ربما توجد نصوص دينية يتأولها بعض الناس لتبرير هذا الانتحار، لكن الحقيقة لو نظرنا إليها من زاوية مختلفة نجدها مختلفة تماما، فالأجداد أنفسهم ما كان لهم أن يحققوا ما حققوه من منجزات تستحق الفخر لو أنهم التزموا برؤية من سبقهم، أما بخصوص النصوص الدينية فالأمور معاكسة تماما، فقد حذرنا القرآن دوما من هذا الانتحار البطيء الذي يسميه بعضهم بـ”الآبائية”.

في أكثر من عشرين آية يحذرنا القرآن من هذا الانتحار البطيء، تم تحديد الأمر بوضوح، آية بعد آية، النقاش يصطدم فورا بحجر كبير، حجر يجعل النقاش غير جيد ما لم يزح هذا الحجر، هذا الحجر هو أنهم يتبعون الآباء دون بصيرة أو وعي، كل حجتهم في أنهم يتبعون الآباء، لا يدافعون عن موقفهم ببرهان منطقي أو عقل أو علم، فقط التعود على ما ورثوه من الآباء.

بأي منطق ستحادثهم إذا كان هذا الحجر يوقف أي عملية تفكير منطقية؟ عليك أن تزيح هذا الحجر أولا، عليك أن تكسر هذه الدائرة المفرغة من الرتابة، عليك أن تخرجهم من جلابيب آبائهم ما دامت ستمنعهم من التفكير، بعدها ربما سيقررون أن جلابيب الآباء هي الأفضل، المهم أن يكون هذا القرار قد اتخذوه بأنفسهم؛ لا يفتح القرآن النار على الآباء، بل يفتحها على الآبائية، والفرق كبير، القرآن يفتح النار على تقليد الآباء لمجرد التقليد، على السير خلفهم خطوة خطوة كما يقاتل الأعمى دون وعي أو بصيرة، ينسف القرآن هذه العلاقة من أساسها ولكنه لا ينسف الآباء أو مكانتهم، يزيل هذا الحجر المعيق من طريقك فيفتح أمامك مفترقات الطرق، بعدها يمكن أن تقرر ربما كان طريق الآباء هو الأفضل، لكن هذا لا يمكن أن نصل إليه ما لم نزح هذا الحجر أولا.

قد يعترض معترض على الربط بين هذه الآيات وبين ما نقول عنه صراع الأجيال، سيقول: “إن كل هذه الآيات تتحدث عن أناس اتبعوا آباءهم المشركين بينما آباء اليوم مؤمنين، وهكذا لا مجال للحديث عن صراع الأجيال”؛ لا نشكك في ما نحن عليه، لكن نحدث عن الآبائية كسلوك، كمرض، كانتحار بطيء، هي: “طريقة التفكير”، يمكن أن تحدث مع أي شيء لإعادة النظر فيه، فمن قال إنهم فهموا الإيمان على النحو الأكمل؟ من قال إن فهمهم للنصوص الدينية هو الصواب الذي لا يأتيه الخلل من أي مكان؟ من قال إنه لا يوجد فهم جديد لا يتعارض بالضرورة مع فهمهم، لكنه يتفاعل مع واقع جديد مختلف؟

علينا أن نجرب، أن نقرر، أن نعيد النظر لا لغرض الحد، ولكن لإعادة التقييم والبناء؛ أعرف يا صديق، جلباب والدك قد ضاق كثيرا على أحلامك، أعرف ذلك وأتفهمه، بل وأتفق معك فيه، جلباب أبي وأبيك قد ضاق على عالم قد تغير كثيرا منذ أن لبس هذا الجلباب في المرة الأولى، أفهم أنك لم تعد تحتمل ذلك، ولا أنا بصراحة، لكن خروجك من جلباب أبيك يجب ألا يكون لمجرد الخروج، يجب ألا يكون فقط لغرض التمرد؛ الأمر ليس أن تخرج لغرض الخروج، ليس أن تتمرد لغرض التمرد بلا هدف، يمكنك أن ترتدي الجينز أو أي زي حديث آخر، لكن المهم هو: كيف ستعيش بما ترتديه؟ ماذا ستفعل بما ترتديه؟ هذا هو ما سيحدد: أكان خروجك مجرد مراهقة طائشة فقط لتثبت لنفسك أنك رجل؟ فقط لأن لديك عقدة من جلباب أبيك تزيدها تعقيدا بخروجك الطائش؟ هذا هو ما سيحدد نتيجة الأمر.

بالمناسبة، خامة جلباب أبيك جيدة، يمكنك أن تحسنها وتعيد تفصيلها دون التخلي عنها بالكلية.

 

 

عن سلسلة (لا نأسف على الإزعاج) للدكتور أحمد خيري العمري.

تفريغ : شيماء انطيطح.

التدقيق اللغوي: مصطفى الونسافي.

 

1xbet casino siteleri bahis siteleri