المصير المحتوم

عندما عثرت على لباس الإحرام وهممت بوضعه في حقيبتي أحسست بشيء غريب للغاية … هذه القطعة من القماش الأبيض الناصع رفعت فجأة من على بصيرتي السواد الذي يحول بيني وبين التفكير في ذلك اليوم … اليوم الذي سألبس فيه مثل هذا الثوب الخالي من الألوان والأشكال والجيوب لأوارى تحت التراب، مع سواد ما فعلت وبياض ما قدمت
ننسى الموت … أظنه أمر طبيعيا، لأننا لو فكرنا في الموت طويلا لما استمتعنا بالحياة…الإنسان ينسى وقلبه يتقلب، يفكر في الحب والزواج والثروة والشهرة ومستقبل أطفاله وراحة باله وسلامة جسده وكل تلك الأحاسيس الحية التي تبعده لا إراديا عن التفكير في النهاية…إنها أحاسيس الحياة وهي بالتالي تتعارض مع التفكير في الممات…لأن في دواخلنا حب الخلود، ولولا هذا الحب لما بنت الأمم المعالم التاريخية، ولما رسم الفنانون اللوحات الخالدة، ولما انكب الكتاب على تسطير الروايات الأسطورية.

f7fe093bb07502bc43b41f2522a1658e_large (1)

مقالات مرتبطة

يفكر الإنسان في تفاصيل حياته كلها وكأنه خالد ويرتقب تغيراتها المباغتة خوفا من الزوال … ولكنه ينسى أن لهذا السباق نهاية، وأن للطريق محطة وصول … إلى أن يتذكر يومه الأخير عند موت قريب أو رؤية مريض أو ملامسة لباس إحرام يذكره بالكفن كما حدث معي هذا الصباح …يتذكر للحظات، ربما لدقائق أو ساعات ثم يغلبه واقع الحياة وغريزة البقاء وطموحات الريادة والزيادة فينسى … فكما أننا لا نستطيع أن نحملق في ضوء الشمس اللامع لأكثر من ثواني معدودة، فإننا لا نستطيع كذلك أن نفكر في الموت طويلا … ربما لأننا نخاف من الموت …  أظن بأن هذا الإحساس بالخوف الذي يعترينا عندما نبدأ بالتفكير في هذه الأشياء مبني على جهلنا بما سنشعر به بعد فراق الدنيا … لم يرجع إنسان من العالم الآخر ليخبرنا كيف يقضي وقته هناك وما يحس به … ليس لدينا المعلومات الكافية التي عليها نبني تصورا لما ستكون عليه حالتنا بعد الموت … هذا الإحساس بالخوف هو إحساس بخوف من المجهول إذن … ولكن هذا الخوف يندثر تماما عندما نفكر في العالم المجهول الذي أتينا منه … قبل أن تحمل بِنَا أمهاتنا … عندما لم نكن شيء … كنّا كذلك في عالم آخر، خارج الزمان والمكان … عالم لا مرئي ولا محسوس … ليس لدينا عليه أدنى فكرة سيئة، بل بالعكس، التفكير في فترة ما قبل الولادة مريح جدا … ربما الموت الذي نخاف منه كذلك … عالم مريح وإن صعب علينا تصوره
وضعت لباس الإحرام وبعض الألبسة في حقيبتي، هذه الحقيبة التي رافقتني في كل أسفاري منذ سنوات، لم أستطع أن أستبدلها بالرغم من أنها بدأت تتمزق وتترهل … حتى هذه الحقيبة التي تذكرني بأروع الأماكن وأغنى التجارب التي خضناها سويا والتي كلما نظرت إليها ازددت رغبة في العيش والإكتشاف والسفر، بدأت تضعف وتنحل … تذكرني هي الأخرى بأن هناك ضعف بعد قوة وأن لكل بداية نهاية.

91year-culturainquieta1
في حقيبة أخرى صغيرة وضعت جواز السفر، شيء من اليورو الذي كان متبقيا من الرحلة السابقة، مذكرة وآلة شحن الهاتف … وضعت الحقيبتين في ركن من الصالون ثم دخلت مسرعا إلى الحمام لكي أغتسل بنية العمرة … كان أخي ينتظرني لكي ينقلني إلى المطار؛ أخي أمحمد هو من أعول عليه في هذه الأمور، أصبحت ألتقي به في الطريق إلى المطار أكثر مما ألتقي به في الرباط لكثرة أسفاري وإنشغالاتي…أجده ينتظرني عندما أعود إلى المغرب؛ أصبحت هذه عادتنا
يقولون بأن أفضل الأفكار تأتي أثناء الاستحمام باعتبار أنه يبعدك عن الشعور بالرتابة ولا يستلزم الكثير من التفكير لأدائه، فماذا لو كان هذا الحمام يذكرك بالغسل الأخير؟ … أن تستحم وتلبس البياض … تذكرت حينها عمي رحمة الله عليه … كنت من غسلته رفقة والدي … توفي وهو يستعد لكي يحج بيت الله الحرام … تخيلت نفسي كما لو كنت مكانه، تذكرت ضحكه ونكته وخفة دمه وغيرته على عائلته وأولاده… تذكرت ابنه وهو يبكي و يقول أنه لا يتمنى من هذه الدنيا سوى أن يقضي معه خمسة عشر دقيقة أخرى … تذكرت والدي الذي يعاتبني في كل مرة لأَنِّي لم أتصل به… تذكرت أشياء كثيرة لا تحضرني عندما أكون خارجا من هذا الحمام …الهاتف الذي كان يرن بين الفينة والأخرى وحده من كان يقطع حبل هذه الأفكار..

خرجت من هذا الحمام الذي ذكرني هو أيضا بالغسل الأخير فوقع بصري على ذلك الثوب الأبيض الذي ذكرني باللباس الأخير…أخذت حقائبي…ونزلت مسرعا كما هو الحال في كل سَفَر لكي ألحق بالطائرة التي ستقلني إلى مكة

1xbet casino siteleri bahis siteleri