أن تكون إنسانا بلا وطن …

“كل انسان يولد في وطنه إلا الفلسطيني وطنه يولد فيه”  كنت في الثالثة عشر من عمري لما سمعتها من فلسطيني زار عائلتي في المغرب. جملة واحدة كانت كافية لتستعمر و الى الابد جزءا من روحي و تجعله مستعمرة دائمة فخرية لوطن تتعايش فيه الأسطورة و الحقيقة لتكونا شيئا لا يمكنك إلا ان تصدقه و تؤمن به حتى النخاع.

لم أكن حينها أعرف محمود درويش و لا ناجي العلي و لا تميم البرغوثي و لا سميح القاسم. كنت أعرف أغنية انتشي كلما انبعثت أنغامها من المذياع او التلفاز كنت أفرح كلما شاهدت مارسيل خليفة يؤديها و يعزف على عوده و كأنهما صارا شيئا واحد لا يتجزأ و لا ينفصم مطلقا لتتداخل الانغام الموزونة مع الكلمات العميقة فتصدر شيئا كالسحر الآسر و تظل كلماتها يرتد صداها في كياني …

                                                  في كفي قصفة زيتونٍ وعلى كتفي نعشي …

                                                                وأنا أمشي و انا امشي …

كيف لكلمات بسيطة خطها سميح القاسم… الفلسطيني الأبي الذي رحل  قبل أيام و غناها مارسيل خليفة اللبناني الذي لطالما اعتقدت انه فلسطينيي أن يكون لديها كل ذلك الوقع على المسامع و الروح …حنجرة ماسية لبنانية تغني شعرا فلسطينيا فتتحدث عن الزيتون تارة مستحضرة بذلك الحياة و تتكلم تارة أخرى عن النعش لتستحضر الشهادة و الموت و فداء الوطن…  وطن تتغير صورته في نظرك  بعد ان تقرا ابيات الدرويش التالية …

” لعلكم أحياء…

لعلكم أموات…

لعلكم مثلي بلا عنوان …

ماقيمة الانسان…

بلا وطن… بلا علم..

و دونما عنوان… “

 

أن تكون إنسانا بلا وطن…

هل ستلعب لعب أطفال الوطن ؟ و هل ستشم رائحة العجين و الفطير الذي عجنته سيدة الوطن ؟ و هل ستسمع أناشيد الوطن حين يأتي الربيع و تزهر الحقول وتفوح الدنيا عبقا بورود الكاميليا و الأوركيد، هل سنلعب الغميضة تحت شجرة القيقب؟ و نتسلق أشجار الزيتون فنحس أن جذورها تمتد فينا وتمتد إلى أول شخص بنى الوطن؟
هناك أشياء خلقت دون أن نستطيع وصفها… أشياء لا تحسها إلا وأنت في الوطن……
هل ستعوضك ناطحات السحاب و أسوار الرخام و مرايا العاج عن أكواخ الجبل؟ و طيب خشب الأوكاليبتوس الذي بنى الوطن؟ هل ستخبر صديق الوطن أنك تريد أن تصبح جندي الوطن؟ و طبيب الوطن و أب ومعلم أبناء الوطن؟ و إن انت التقيت الغرباء يوما، فهل ستخبرهم عن الوطن؟
أتخيل الأطفال بعيونهم الملونة يسبحون داخل رحم الوطن.. ويتغذون عبر مشيمة الوطن..

26680667602_bbb4982157_o
صورة لطفلة فلسطينية من غزة

أسمع صوت المنابرو الكنائس و الناس و المطر… أشم رائحة الثرى المبلل بخيوط المطر……
أتخيل معلمي يدخل القسم مع الثامنة إلا ربعا فيكتب تاريخ الوطن و يرسم جغرافية الوطن ويسمعنا نصدح بنشيد الوطن… نحلف بأغلظ الأيمان أننا لن نترك الوطن… هل تعلم أنني وفي منامي لا أحلم بشيء غير الوطن؟ أحلم أنني أبكي على أطلال الوطن لأنني وعدته أن لا أتركه و تركته… فهل أصوم دهرا أم اعتزل الناس أم أطعم جياع العالم حتى أكفِّر عن مافعلته بالوطن؟ و انا ما ذنبي إن أنا وُلدتُ بعيدا عن الوطن؟ ماذا اقترفت كمعصية حتى أنفى و أدفن حيا في مكان غير الوطن……
هل تدري أنني أشتاق إليه دهرا في الثانية؟
أنا لست أنا و أنا بعيد عن الوطن..  اعشق ثرى الوطن.. و رغم أنني أكره الدود كله و أتقزز من رؤيته إلا أنني أعشق دود الوطن.

1xbet casino siteleri bahis siteleri