معان في الرحمة

أتأمل دوما في العلاقة الجدلية القائمة بين العبد وربه، تلك العلاقة التي قوامها الرحمة واللين والمغفرة والثواب، وأحيانا العقاب كرد فعل ردعي قلما يكون خيارا أوليا، فالله يقول عن نفسه “سبقت رحمتي غضبي”، الأمر بالنسبة لغير المؤمنين شيء ميتافيزيقي غير ملموس ولا يترجم بشكل مرئي أو مادي، لكنه بالنسبة للمؤمنين يمثل جوهر إيمانهم وأساس توبتهم وأوبتهم رغم كثرة عثراتهم وتوهانهم في الطريق إليه.

ذلك اليقين بأن رحمته تسعنا على علاتنا وأدراننا، تلك الثقة التي لا ندري أمصدرها وعينا أم شيء غيبي لا ندركه لكننا نحس به ويغمرنا في لحظات ضعفنا وإدراكنا لانحرافنا عن الصراط كثيرا.

يتربص بنا اليأس مرارا ونحن ندرك في لحظات كثيرة، أننا صرنا أشخاصا آخرين غير أولئك الذين عرفناهم بدءً، نتوه عن أنفسنا، عن براءة الطفولة الأولى، عن فطرة القلب الذي لم يعرف الخبث ولم يجرب الخطأ ولم يقر في قلبه شيء من حلكة، ننظر لأنفسنا ونحن نبتعد ونتغرب عن ذواتنا، تدهشنا الحياة وهي تنقل لنا أخبار فلان الذي تحول بين ليلة وضحاها، رغم أن تحوله حقيقةً صار رويدا رويدا، بخطى حثيثة… عززته الأنانية مرة، كلام الناس مرات، استيئاسه من رحمة الله أحيانا، قنوطه من نفسه ومن احتمال عودته عن الطريق الذي اختاره طوعا.

18164pst151001_pg22

يُخيل إلينا أن الناس تتغير سلبا أو إيجابا في أيام معدودة وأنها تتنكر لتاريخها وماضيها كأنه لم يكن، لكننا لا شك لا نعلم شيئا عن تلك الحروب التي يخوضونها مع أنفسهم، لا نعلم شيئا عن تلك الليالي التي كانوا يُسائلون فيها قلوبهم ويتحسسون أ ما زالت في موضعها أم تخلت عنهم كما فعل الأصحاب و الأحباب. نحن لا نعلم شيئا عن كم الأسئلة التي تطرق رؤوسهم وتصدعها وتترك فيها جروحا لا تندمل و علامات لا تنمحي.

نحن لا نرى غير أشخاص مترنحين لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك ، يصارعون أنفسهم، يتمردون، يغضبون، يصرخون، يعلنون عن وجودهم برفض السائد و مواصلة الابتعاد.

مقالات مرتبطة

من المؤكد أننا لا نستوعب تلك الأسئلة الوجودية التي تحتدم في أدمغتهم و تحدث ضجيجا أقوى من صوت العقل والمنطق، لا شك أيضا أننا نُنصب لهم المحاكم ونشرع في محاكمتهم وتصنيفهم ونبذهم، لا شك أننا نُمعن في احتقارهم ونحن نراهم يُجاهرون بأفكارهم الصادمة رغم أنهم قد لا ينطقون إلا بما تزدحم به عقولنا ونأبى أن نخرجه كي لا يتملكنا أكثر ويشل تفكيرنا.

نراقب انحدارهم ببطء ولا نفكر بالمرة بمد أيدينا، مستمتعين بالمشهد، قد نحس بالانتصار أو بالقوة لأننا ثابتون، لا نتساءل أو نقمع التساؤل، نحس أننا في مكان علي ننظر إليهم من بعيد ونصفق لأنفسنا لأننا قابعون في نفس المكان منذ زمن.

يغرينا دور المتفرج كأننا نشاهد فيلما ننتقده وننقده وننسى في لحظة ما أن حياة أحدهم على المحك، ونغفل عن كون الدور آتيا علينا-ربما-في زمن تخوننا فيه أنفسنا وتستسلم لضعفها.

نعتقد أن أشياء كثيرة لا تصيب إلا الآخرين ونحن في منأى عنها محصننين آمنين، ونعتقد يقينا أننا عند الله بمكانة لأننا لا نسأل، لا نشك، لا ننتقد… وفي اللحظة التي نقرر فيها أن نكون قضاة نتجرد من إنسانيتنا ونطرق بمطرقتنا مُصدرين القول الفصل في حق الخارجين عن سنة الله في الأرض.

deedsofmercy

نصدر أحكاما قاسية ونحن الذين نتشارك مع الآخرين في الإنسانية، نتشارك لحظات القوة ولحظات الضعف، نتشارك في الاستسلام للهواجس الداخلية، في التعثر، في ارتكاب الأخطاء الفادحة في حق أنفسنا وفي حق الآخرين، نذنب وقد نصر على الذنب ونتوب ثم نعود كأننا لم نفعل رغم أن حياتنا هي تناوب بين صعود وهبوط وأن ذلك الطمع في رحمة الله هو ما يجعلنا نستمر، ذلك الرجاء في عفوه وفي أنه سيصفح عنك مهما أخطأت و أنه سيرأف ويترفق بك أكثر مما تترفق بنفسك، ذلك اليقين بوسع مغفرته وأنك إذا ضاقت عليك الدنيا بما وسعت فلن تجد ملجأً إلا هو، وتدرك بعدها أن وحدها تلك الرحمة وحجاب ستره الذي يحجب عن الآخرين نقائصك وصغائرك هو ما يجعلك قادرا على البدء من جديد كل مرة.

أتساءل في خضم هذا كله لو أننا نقتبس بعضا من هذه الرحمة الإلهية و نتعامل على أساسها، لو أننا ننظر لأعمق مما يُظهره لنا الآخرون، لو أننا نجرب أن ننظر لقلوبهم وأن نستمع لأوجاعهم، أن نغفر زلاتهم، أن نلتمس لهم العذر كما نلتمسه لأنفسنا، أن نترك دور الحكم للعدل الذي لا يظلم، لو أننا ننشغل بتسهيل هذه الحياة على بعضنا مادين أيدينا لمن يحتاجها، مشيدين الجسور لمن انقطعت به السبل، موكلين أمر الحساب للذي يرانا جميعا، لأننا بشكل ما يجب أن نحاسب على أفعالنا لكننا في كل ليلة نرفع أيدينا دعاءً بالتجاوز عن التقصير، بشكل ما نحن نجنح إلى كنف الله هربا من سوء أفعالنا، وساعة ينكشف الحجاب سنخجل من كوننا طمعنا في رحمة الله و بخلنا بها على بني جلدتنا.

1xbet casino siteleri bahis siteleri