طفولة قلب

يقول الرافعي “أ فتدري ما السعادة، طفولة قلب”، كل شيء محله القلب، فهو الذي يجعلنا نبصر الأشياء بمنظور مختلف عما يراه الآخرون.

يعتقد أغلبنا أن الطفولة مرحلة عمرية مصحوبة بعدم المسؤولية وكثير من الجنون، تتوقف عند سن معينة، تتميز في نظر الأغلبية بكونها مرحلة تنعدم فيها المسؤولية وتكون قدرة الطفل على التمييز بين الصالح والطالح محدودة، لذا فهو بحاجة مستمرة للتوجيه وأحيانا للعقاب والتحذير…

لا أخفي أني بدوري كنت في مرحلة ما أنظر للأمر من زاوية مماثلة، فقد كنت أعتقد أن الأطفال كائنات مزعجة وأنه لا وسيلة للتفاهم معهم إذا ما عاندوك في أمر ما، هذه الفكرة السطحية التي كانت لدي لا تختلف في شيء عن مجموع الأفكار النمطية السائدة في المجتمع، ولا أدري هل في لحظة ما ننسى أو نتناسى أننا كنا أطفالا ذات يوم وأن ذكريات الطفولة لا زالت قابعة في أعماقنا، تطفو بين الفينة والفينة إلى السطح بهدوء أو بعنف أو بهما معا.

نتناسى أو يسقط الأمر سهوا من الذاكرة أننا في يوم ما كنا نلوم الكبار لأنهم لا يستمعون لنا، لا يفهمون ما يدور بعوالمنا الداخلية، لا يستوعبون أسئلتنا ولا يحاولون البحث عن أجوبة كافية.

ربما كان أكثر شيء يزعجنا هو اعتبارنا من طرف الكبار كائنات لا تستطيع فهم ما يدور في عالمهم وأن عقلنا لا يستطيع أن يستوعبه كفاية، بينما يصبح الجواب الوحيد والأوحد الذي يواجه أسئلتنا الكثيرة: “ستعرف عندما تكبر”.

مقالات مرتبطة

6400275_orig

 

فيتحول الهدف الوجودي الأسمى أن نكبر كي نفهم، يصبح التركيز في هذا الأمر كبيرا لدى البعض لدرجة يفقدون معها استمتاعهم بطفولتهم ولا يستيقظ الأغلبية إلا وقد هرولت سنوات الطفولة من بين أعمارهم كما تنفلت حبات الرمل من بين الأصابع وما إن يستيقظوا من غفوتهم حتى تتحول تلك الرغبة في أن يكبروا إلى رغبة معاكسة في أن يعودوا لطفولتهم.

 

والحق أن الطفولة في جوهرها ليست كما يصورها لنا المجتمع، بل على العكس تماما إنها مرحلة واعية تتشكل فيها أفكار المرء والخطوط العريضة للطريق التي يسلكها مستقبلا، إنها أشبه بانموذج للحياة القادمة، فيها تبنى الثقة وتقدير الذات والخصال الأخلاقية والملامح العامة للشخصية، فهي أشبه بمحطة تمهيدية لما هو قادم.

إن معاملة الطفل وكأنه إنسان غير واع  ولا يملك القدرة على التحليل، أشبه باستخدام نظام معقد ومتقدم بأساليب بدائية لا ترقى إلى تطور هذا النظام، ومن خلال تجربتي الصغيرة في القسم فإن الأطفال يصبحون أكثر انتباها واهتماما كلما حملتهم المسؤولية وجعلتهم يشعرون أنهم أشخاص بالغون يملكون القدرة على اتخاذ القرارات ومناقشتها، ستحس أن عملية التواصل معهم ستصبح أكثر سلاسة كلما أجبت عن أسئلتهم بلغة مفهومة وواضحة وسيصبح الأمر أكثر سهولة كلما اعترفت أنك لا تستطيع الاجابة عن بعض أسئلتهم لأنك لا تملك المعلومات، سيكسر هذا ذلك النموذج الراسخ أو الذي نحاول ترسيخه كون البالغين يعرفون كل شيء ولا يخطئون، سيكون من الأيسر أن يتعلم الأطفال منذ صباهم الأول أن هناك نقاطا متشابهة كثيرة بينهم وبين الكبار وأن البلوغ هو مرحلة حتمية لا داعي لاستعجالها ولا يمكن الوصول إليها إذا لم نعش طفولة مستقرة.

kids-doing-adult-things-business-kid

سيكون من المفيد أن نتجرد قليلا من بعض كبرنا الذي يجعلنا نعتقد أننا نعرف كل شيء وسنجيب على كل شيء، بل وسنختار لأولئك الصغار ما سيكونونه فيما بعد.. البعض يكرر الأخطاء التاريخية التي ارتكبها آباؤهم معهم، فتجدهم يختارون لأبنائهم هواياتهم، أصدقاءهم، المواد التي يجب أن يتفوقوا فيها، الكلية التي عليهم ارتيادها وأحيانا الملابس التي عليهم أن يلبسوها… يخيل إليك للحظة أنها عملية استعباد وتملك، ليست استعبادا جسديا فحسب بل يصل الأمر إلى فرض القيود على التفكير وما يجب أن يُنطق بصوت عال وما يجب أن نخاف من ترديده بيننا وبين أنفسنا.

إننا عندما نعي أن هؤلاء الأطفال هم أمانة استؤمنا عليها، يمتلكون مشاعرهم الخاصة وتفكيرهم الخاص وشخصيتهم المستقلة وأفكارهم المتفردة والقدرة والحق في قول لا عندما يرغبون، عندما نعي أنهم ليسوا ملكا لنا وأننا لا نملك الحق في فرض القيود على تفكيرهم ووعيهم سنصل إذ ذاك إلى قناعة التكامل وتبادل الخبرات، سنعرف أنهم يملكون الشيء الكثير في عالمهم وأننا يمكننا أن نتعلم منهم ونقتبس من نظرتهم المليئة بالأمل، سنعرف أن دورنا هو أن نسقيهم من بعض خبراتنا لتمهد لهم الطريق، سنفهم أننا دليلهم وأنهم وقودنا، أن العالم لا يكتمل إلا إذا أخذ بعضنا بيد بعض وساعتها فقط سنؤمن أن السعادة هي طفولة القلب الذي لا يهدأ عن الأسئلة لاستغوار الكون ولا تتعبه الحياة لأنه يصر أن يتعبها ولا يستعفف عن الجنون لأنه ملح الحياة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri