رحلة الحياة

“كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل” (رواه البخاري) حديث ربما سمعناه كثيرا ربما أثر في بعضنا وربما لم يؤثر ربما نجحنا في فهم مغزاه وربما لم ننجح… في الأيام الأولى لتعرفنا على الأحاديث وفي محاولة سبر معانيها ندعي أن المعنى وصلنا وأننا وعيناه جيدا وقد نأخذ العهود على أنفسنا “نعم سأعيش في الدنيا كأنني غريب أو عابر سبيل”… لن أتعلق بالحياة كثيرا ولن أزهد فيها كثيرا ولن أدقق في الأمور كثيرا لأني عابر سبيل سرعان ما سأغادر الدنيا كأني لم أكن.

لكن وأنت تواجه سفرك وحيدا في هذا العالم وعندما تبدأ أشياء كثيرة في التغير ومفاهيم جديدة في التمثل تدرك أن فهمك السطحي الأول لم يكن إلا قراءة لم تستند إلى العمق ولم تخبر التجربة.
تدرك جيدا مع مرور الزمن معنى أن تكون عابر سبيل أو غريبا أو مسافرا في هذه الحياة، تدرك أن لا شيء يدوم ولا شيء يظل في ذهنك كما اقتحمه أول مرة… تدرك أن كل الاشياء التي تمتلكها ربما تتملكك في الحقيقة بينما ستغادرك أو تغادرها في زمن غير معلوم بالمرة.

تلك الوظائف التي نحارب من أجلها ونخاف خسارتها وقد يخسر الانسان نفسه وقناعاته في سبيلها رزق ساقه إليك الله على ضعفك وسواء أ كنت تمتلك كفاءة أم لا ستعرف أن تلك الوظيفة ما هي إلا باب تمارس فيه المهمة التي أوكلت اليك في هذه الدنيا وأن الكرسي الذي تجلس عليه قد يسحب من تحتك على حين غرة أو قد يكسر أو يغير أو يفقد لأنك عابر سبيل في ذلك المكان لست مقيما ولا صاحب دار أنت عابر كالآلاف الذين عبروا قبلك وكالملايين الذين سيعبرون بعدك بعضهم عرفتهم وبعضهم لم تعرفه بعضهم ماكان لك أن تسمع باسمهم لولا أنهم تركوا وراءهم سمعة طيبة أو سيئة وبعضهم عرفتهم من الغراس الذي زرعوه فوصلتك ثمرة غراسهم.

ربما لن تدرك هذا إلا متأخرا وستتحسر على كل لحظة كان من الممكن فيها أن تؤدي عملك بشكل أفضل وأن تهون الطريق على أحدهم وأن تكون عونا وسندا لآخر مدركا أنك ستغادر وأنه من الأجدى أن تترك المكان الذي مررت منه أجمل مما وجدته عليه فلربما كتب لأحدهم أن يستظل فيه.
ستدرك وأنت ترى كل تلك الأشياء التي تعلقت بها وبنيت حياتك على أنها ثابتة دائمة لن تفارقك تفارقك، حبيب هجرك، والد رحل في تقديرك قبل الآوان أم تركتك في منتصف الطريق، صديق هاجر وبنى حياته بعيدا… ستدرك حينها أن الأمر أشبه برحلة وأنك ركبت المقطورة وحيدا محاطا بالغرباء وأنك على باب المحطة ودعت أحدهم وأن الآخر لم يوصلك إلى المحطة واكتفى بتوديعك على باب المنزل وآخر لم يكن لديه وقت لتوديعك فأرسل إليك رسالة وآخر كان ينوي أن يسلم عليك لكنه انشغل أو فوت موعد القطار.

ستنظر من حولك وستجد في كل الذين يحيطون بك شيئا منك شيئا فيه شبه منك… تقصدون أماكن مختلفة بنفس الغايات وقد تقصدون نفس الأمكنة لكن بغايات مختلفة… ستصلون جميعا بعضكم متأخرا وبعضكم في الوقت تماما وبعضكم سيأخذ قسطا من الراحة قبل أن يصل إلى غايته… بعضكم يشغل نفسه بالذكر وآخرون بالقراءة وكثيرون بالثرثرة وقليلون بالنوم… البعض لا يحمل إلا نفسه والآخر محمل بالأمتعة والحقائب والبعض بين هذا وذاك.
ساعتها ستتجلى الحياة أمامك شبيهة بالقطار البعض يسافر فيها وهو مدرك للغاية التي يسافر من أجلها متجهزا لها مستعدا والبعض لا يدري الى أين سيذهب وإن كان سيجد من يرشده إلى ضالته والبعض الآخر يسافر لأنه ملزم أن يفعل أو لأن الجميع يسافر.

الحياة كما السفر لا شيء فيها ثابت، الوجوه متغيرة والوسائل كذلك وفي بلداننا حتى الأوقات غير ثابتة، تعلم أن سفرك سيكون مريحا إذا ما أعددت عدته وتجهزت وقتا كافيا قبله، ستصل منهكا إن اضطررت للهرولة لأنك أضعت خمس دقائق هنا وأخرى هناك وسيكون السفر متعبا إن نسيت قنينة الماء فوق المنضدة أو لم تتذكرها إلا وأنت في مقعدك، قد تجد حينها عابرا مثلك يملك بعضا من الماء فيسقيك أو قد تضطر لدفع ثمنه مضاعفا لأن رواء العطش أغلى على نفسك من حفنة دراهم.




كما جلوسك في القطار تتوالى أمامك الصور واحدة تلو الأخرى، تمر بين الجبال وقبالة البحر وعلى السهول، مناظر بعضها خلاب والآخر قاحل، تتوالى بعضها تلو الأخرى في تسارع وفي زحام عجيب وكلما اعتقدت أنك ستحتفظ بتلك الصورة نقية خالية من الشوائب زاحمتك الأخرى فيها وأنستك إياها كأنك لم ترها، كما جلوسك ذاك ستحسب لوهلة أن الحياة هي توال للصور والأحداث التي سينسيك الواحد منها في الآخر ستتعب كثيرا من أجل أشياء كثيرة وكلما شعرت بالسعادة اعتقدت أن حالتك تلك لم تعشها من قبل ولن تعيش مثيلا لها في المستقبل حتى تنسيك الحالة الجديدة حالتك القديمة، وكلما مررت بضائقة أو حزن اعتقدت أنها المصيبة التي لا فكاك منها ولا مصيبة قبلها أو بعدها فإذا ما أبدل الله الحال بحال آخر والشدة بالرخاء حسبت كأنك لم تعش الحزن مرة.

بعد أن تمر بكل هذه الأشياء التي تبني وعيك لبنة لبنة كأنما احتاج لتوالي البرودة والحرارة والشدة والرخاء ليستقيم صامدا في وجه أهوال الدنيا، ستدرك في لحظة تشبه الفتوحات العظيمة أنك مسافر في رحلة الحياة، غريب لن يعرفه أحد ساعة يغادر ويصبح جسده رميما تحت قبر يختفي شاهده بعد سنوات، عابر سبيل لن يتذكره إلا القليلون كأنما قدم للحياة وحيدا بلا أب أو أم أو أولاد أو إخوة، كأنما جاء لهذه الحياة على سبيل الزيارة التي قد يطول أمدها أو يقصر لكن إن طال أو قصر ذلك الأمد فسيحسب نفسه لم يلبث إلا ساعة فيها وكلما اقتربت لحظة المغادرة سيحسب نفسه لم يمكث إلا برهة لم تكن كافية له ولا لمشاريعه وخططه.

في لحظة فارقة من اللحظات الكثيرة الفارقة التي لا نعود فيها نحن الذي كناه قبلا ستتجلى لك الحياة الدنيا محطة عابرة تقودك إلى محطة نهائية ودائمة لا يمكنك أن تصل إليها بأمان إلا إذا أحسنت السفر الأول وأكرمت وفادته وأعددت عدته، في تلك اللحظة بالذات ستهتف لنفسك “أحبب من شئت فإنك مفارقه وعش ما شئت فإنك ميت…”




1xbet casino siteleri bahis siteleri