خطوة واحدة تفصلكَ عن الكتابة النقدية

بدايةً هي وجهةُ نظرٍ، فلست مقياساً لأحد، وفي ضوء ذلك فإنني أقول: إنه أحد الحجج التي تثبت أن الاطلاع والقراءة بمجردها لا تصنعُ مفكرًا، ربما مثقفًا، فهناك بعض المفكرين الأعاجيب، ذوي اللغات المتعددة، الذين التهمَوا آلافًا من الكتب فيما يربو على نصف قرن، بعزيمة نادرة، وجَلَدٍ لا يعرفُ التكاسل ..  ليسوا إلا “دائرة معارف” تمشي على قدمين، ولم يتمخضوا إلا عن “بنك معلومات” متنقّل، ثم ما امتازوا بشيء أكثر من معلومات كثيرة ومتنوعة، وليس هذا تقليلًا من شأن هؤلاء الكتّاب، فهم – والحقُ يُقال – كتاب مبدعون، لكن عندما نوازن بين مدى اطلاعهم وقراءاتهم ومدى ما نقرؤه من أعمالهم، هي كثيرة، فإننا لا نراها متناسبة، فالإنفاقُ لا يتناسبُ إطلاقًا مع العائدات، وهذا طبعًا على افتراض أن القراءات الكثيرة ستؤدي إلى أعمال فذّة، وهذا قطعاً ما ليس صحيحًا دائمًا، فأستطيعُ – وبضميرٍ مطمئن – أن أطلق هذا التعميم: “إن أعظم المفكرين ليسوا هم الأكثر قراءةً”.



أن القراءة ليست هي كل شيءٍ، بل يضاف إليها البصيرة فيما نقرأ، ومن هنا فإن كثرة القراءة مع الفهم الجيّد لما نقرأ مع القدرة على التحرر من المقروء هي من إرهاصات انبثاقِ المفكر فينا، ولذلك فعلينا أن نتذكر أنه حتى تؤتي القراءة المتعطشة ثمارها لا بدَّ أن تكونُ مشروطةً بأشياء أخرى ليست هي بالضرورة المزيدُ من القراءة.

إن أهم ما يميز المفكر هو امتلاك الرؤية، والقدرة على النقد والتحليل، مع أن امتلاك الرؤية تأتي متأخرة عن الممارسة النقدية، فالحاسّةُ النقدية هي أول بوادر تخلّقُ المفكر في داخلك، ثم تنميها وتصقلها القراءاتُ الجيّدة للكتب الجيدة.

هذا –ربما – سيقودنا إلى القول بأن المفكّر كالجنين في داخلك وما عليك سوى أن تطعمه معرفةً وتأملًا وتفكيراً، لينمو ويترعرع، فما تقدمه من أغذية يتحول تلقائياً إلى جزءٍ من نسيجه التكويني، وهذا سيعني أن الطعام قد هُضِمَ، وأن المفكّر الذي يسكنك قد تمثّلَهُ واستوعبه، وهذا ما سينتج عنه شيءٌ آخر يختلف عن صورته الأولى، إذ العلقةُ غير المضغة.



وعندما لا يكون هذا الجنين حيّاً فيك، فمهما أدخلت من غذاء فلن تجد إلا نفسَ الغذاء الذي أدخلته، لم يتغيّر، إذ لا يوجد جنين يتغذى أصلاً، بل مساحة فارغة، تشبه الخزانة، فما وضعته فيها لن تجد إلا هو، وهذا هو “مرض المعلومات”، إنه داء الحفظ والاستحضار الشكلي العقيم. إن المعلومات لا تعني شيئاً إن انحلّت عن سياقها، كالكلمات التي تُفصل وتفكّك عن جملها المفيدة، فهي منفردةً لا تدل على شيءٍ.

فإن حفظت نفس السياق، أي الجملة ذاتها، فأنت حافظ فحسب، تكرر وتستعيد نفس السياق ومفرداته. وإن استطعت أن تعيد بناء الجمل والمعاني والمضامين والسياقات من جديد، بأن تشتق أو تستنبط سياقًا جديدًا، فأنت تمارسُ التفكير والتحليل والمحاكمة والنقد، وهذا ما سيعني أن النصوص، أي الجمل، قابلة لإعادة النظم والبناء من جديد، وأن البراعة إنما هي في الفكِّ والتركيب والاشتقاق، والنظْمُ المبتَدَع يتمُّ عبر المعطيات والمعلومات وما إلى ذلك، لكن الشأن في كيفية بناء الجزئيات وتوظيفها، بعد فهم سياقها الذي وردت فيه، وكلُ هذا قائمٌ على أنك استطعت أن تكتشف السياق الأصح من خلال ذلك النثار المبدد من المعطيات الجزئية.

مقالات مرتبطة

وللمعلومية فإن السياق المراد هنا هو مقولة لا تقتصر على السياق اللفظي، بل هي أعم من ذلك، فتعني السياق الفكري أو الفلسفي أو السياسي .. وكل ما من شأنه التحكم في الجزء لزرعِهِ في كلٍ آخر.

يُخيّلُ إليَّ أن الانبهار شكلٌ من أشكال العجز عن النقد والاختراق لما نحنُ به منبهرون، بدليل أن كثيرًا مما بدا – بالنسبة لنا – مبهرًا في فترةٍ ما من حياتنا الفكرية قد فقدَ تألقَهُ بعد مدةٍ قد تطولُ أو تقصر، وما ذاك إلا لأننا تجاوزناه وتقدمنا عليه، وهو مؤشرٌ على تطورنا ونمونا، فاستطعنا أن نقلّص الهوة بيننا وبينه، فارتفاعُهُ – إذن – لم يكن شاهقاً كما كان، والسرُّ – كما قلتُ – لأن قامتنا الذهنية قد طالت قليلًا أو كثيرًا، لا أن الأسقف قد تقاصرت وانخفضَت.

لعلها مناسبة أن أعترف بصدق: لقد أمسكتُ بوعيي يومًا ينزف بين دفتي كتاب، فإذا بالقراءة آلية ماكرة من آليات التنميط والبرمجة، لا تساورنا حولها الظنون، لأننا توهمنا أنها العاصمة من التنميط والتقليدية، فإذا بها تريدنا أصداءً لأصواتٍ أخرى، فإن كل خطابٍ دائمًا ما يشرعن نقدَ الخطابات الأخرى ويستثني نفسَهُ ربما بصورة ضمنية، لأنه سيصطنعُ أتباعًا، وسيشيد مرجعياتٍ من نوعٍ آخر، فيمارسُ أقسى أشكال الدكتاتورية والإذلال المعرفي، وهي الدكتاتوريات الناعمة تلك التي تلتهمُ ضحاياها وهم لا يشعرون، بلْ ربما وهم يضحكون.

إنها لا تلجأ – كباقي الدكتاتوريات التقليدية – إلى الهراوات لفض الجموع المائجة وتفريقها، بل إلى تعليب عقولهم قبل أن ينخرطوا في أي معارضة أصلًا، أي مصادرة العقل المعارض قبل أن يوجد، بسلب القدرة النقدية، عبر آليات التنميط وفقًا لنماذج أخرى، وبأسلوبٍ راقٍ، يتشحُ بالمعرفة الفائقة، والمعلومة الحديثة.

والعبرة هنا أن يحذر القارئُ من الكتب الكاسحة التي تجتاحُ وعيَهُ الوليد فتأسرَهُ مبكرًا، فيغدو الآكل مأكولًا، وفي التدرج وقاية، وبالحرص على القراءة للموثوقين بإخلاصهم وأمانتهم احتياطٌ مفيد، وبعدها ينطلقُ القارئ إلى حيث أراد. الأهم هو الأساس الأول، لأنه القاعدة التي ينهضُ على النقد مستقبلًا، فالنقد ممارسة تنهضُ على أساس وقاعدة، وليس فقط رفضًا عدميًا أو تساؤلًا فراغيًا.

تأملوا كم في الغربيين من مفكرين أذكياء، لكن تأملوا مواقف الأكثرية منهم تجاه العرب، أو الإسلام، أو حتى قضية فلسطين، ليس لأنهم لا يريدون الحق، أو أنهم خبثاءُ، بل لأن التكوين الأولي لوعيهم تأثر بالمحيط الذي تخلّقَ فيه، وقليل جدًا من استطاع تأسيس وعيه على ما هو أقرب إلى النقاء والموضوعية، فإعادة بناء الوعي لا يعني للكثيرين شيئًا ذا بال.

وأهم منها فصح أسس النقد ذاتها، تمامًا كالجنين لا بدَّ أن ينمو جسده على أفضل الأغذية، ثم بعد أن يشتد فله أن يتساهل فيتناولُ ما شاء، فالجسدُ يقدرُ على طرد الخبث بعد ذلك، فكذلك الوعي، لا بدَّ له – في أول أمره – من نقاء واحتياط بالغ.



1xbet casino siteleri bahis siteleri