سيقولون

يحدث أن تولد في مجتمع حريص على أن يكون أول ما يعلمك إياه هو أن حياتك ليست ملكك لوحدك، بل هي ملكية مشتركة، مجتمع لا تكاد تفتح فيه عينيك حتى يسارع إلى تسييجك بحدود يدعي أنه يحمي بها معتقداته الموروثة من العصور الجاهلية.
في مجتمع كهذا، يكفيك أن تفكر في فعل شيء معين لترى أنف القريب والبعيد محشوراً في أفكارك، فتجد هذا يحذرك، وذاك يدعي أنه ينصحك، وكلاهما يقرر في شأن مصير حياتك، وأنت طوعاً أو كرهاً، تتحول لدمية كراكيز تتقاذفها الآراء وتوجهها أينما وكيفما شاءت.

في مجتمع كهذا، كلما راودك حلم تتأنى ألف مرة قبل أن تصرح به جهراً، وغالباً ما ينتهي بك المطاف بأن تغلق كل أبواب الأمل في وجهه بعد أن تستجيب لذلك الصوت في رأسك الذي يظل يردد بإلحاح واستمرار: “إياك أن تفعل.. سيقولون عنك كذا وكذا”.

وأنت في حالة الاستسلام التام تلك، قد يعتريك شعور بالحقد والكراهية تجاه مجتمعك، قد تلومه على قسوته معك وظلمه لك، وقد تحمله مسؤولية فشلك وتعاستك، لكنك حتماً ستدرك لاحقاً أن لا أحد كما أن لا شيء في الحقيقة يستحق اللوم والعتاب أكثر من نفسك.






عندها ستلوم نفسك على سعيك الدائم وراء نيل رضا الآخرين وتقديرهم لك، ستلومه على تغيير موقفك كلما عارضك أحدهم، ستلومه على فعل أشياء لا تؤمن بها خوفاً من انتقاد الآخرين لك أو لتفاديك لاحتمال أن تصير في زمرة المغضوب عليهم من طرف مجتمعك، وستلوم نفسك على كل لحظة قضيتها في مراقبة ألسنة الناس عما ستتفوه به عنك، وكأن تنفسك سينقطع إذا قالوا عنك سوءاً.

فكر لوهلة، كم من حلم حكم عليه بالسجن المؤبد بسبب “سيقولون”؟ كم من شاب طموح أغلق أبوابه في وجه طموحه لمجرد خوفه من “سيقولون”؟ وكم من حياة مملة كادت تصير قصة نجاح لولا “سيقولون”؟
تتعدد النماذج والقصص لأشخاص تخلو عن أحلامهم وطموحاتهم لا لشيء إلا لأنهم قالوا لهم أو قد يقولون عنهم.

صحيح، سيقولون عنك أشياء قاسية جداً، سيقولون لك هذا يخالف عاداتنا وتقاليدنا، سيقولون لك ظروفك لا تسمح، وأن ما أنت مقبل عليه يفوق إمكانياتك وقدراتك، سيعتبرون حلمك انحرافاً، وستتلقى إهانات من أناس ظننت أنهم سيكونون أول من يساندونك ويدعمونك، بمعنى آخر، سيحاربونك بكل ما أوتوا من قوة، لكنك أنت وحدك ستقرر لصالح مَن سيكون الانتصار.




سمعت ذات مرة عن قصة جميلة من قصص الأطفال، وما أحوجنا لسماعها وقراءتها بين الفينة والأخرى فربما نكون أحوج لها من الأطفال، قصة عن سباق بين مجموعة من الضفادع في تسلق جبل شديد العلو والوعورة، ومع بداية السباق بدأ الجمهور الغفير يهتف ويردد: “لن تستطيعوا.. لن تصلوا أبداً للقمة.. كلكم فاشلون” وغيرها من العبارات المحبطة، وهكذا بدأوا يستسلمون واحداً تلو الآخر حتى استسلموا جميعاً ما عدا ضفدع واحد فقط هو الذي تمكن من الوصول للقمة والفوز بالسباق، فبدأ الجمهور يستغرب ويتساءل: “كيف فعلها.. رغم محاولاتنا في إحباطه؟” وعندما بدأوا يبحثون عن سر فوزه، اكتشفوا أنه أصم، لا يسمع شيئاً.
ستقول لي: كيف لي أن أكون مثل ذلك الضفدع في حين أن أذني سليمتان لدرجة أنهما قد تسمعان دبيب النمل على الأرض؟ وسأقول لك: ليس ضرورياً أن تكون أصم بمفهومه العملي، لكن ماذا لو تظاهرت أحياناً بأنك لا تسمع شيئاً -لا أقول أن تغلق أذنيك عن سماع كل شيء- فلا أنكر أن هناك من النصح ما يرشدك إلى الصواب ومن الكلام ما يرتقي بك، لكن ماذا لو وضعت على أذنيك فلتراً يمنع كل تسرب لتلك العبارات القاسية والصلبة.

هناك مقولة رائعة لغاندي أؤمن بها منذ زمن تقول: “كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم”، فشيء جميل أنك ما دمت لا تستطيع أن تغير من حولك، تستطيع على الأقل أن تغير نفسك، فمعظم المصاعب والمخاوف التي تواجهها في حياتك لا تأتي بالضرورة من الخارج بل من أعماقك؛ إذ إنه لم يصنعها إلا تفكيرك أنت، فكلما غيرت أفكارك وغيرت ذلك الخطاب في رأسك، تغير كل شيء حولك.

أما انتظارك ليوم تستيقظ فيه في الصباح لتجد مجتمعك قد تغير، فذلك أشبه بانتظار غودوت “GODOT” في الرواية المسرحية لكاتبها صمويل بيكيت، أي انتظار ما لن يأتي أبداً؛ بل وقد تبلغ من الكبر عتياً ولا يزال مجتمعك على حاله.
مجتمعك لن يتغير أبداً ما دامت نظرته محدودة، ما دام لا يعترف بالاختلاف ويخشى كل ما هو جديد، مجتمع يؤمن بالعادات والتقاليد أكثر من إيمانه بأي شيء آخر؛ بل تكاد عاداته وتقاليده تصير عقيدته، وبالتالي لا يفرق بين ما هو دين منزل من السماء وما هو عادة اعتاد أسلافه على القيام بها فتوارثها -لا أقصد أن أكون ضد العادات والتقاليد- فلا أتحدث عما تم توارثه من أشياء جميلة، من ملابس تقليدية وبعض الطقوس التي تضفي على كل مجتمع طابعاً فريداً ومتميزاً، ولا أتحدث عن كل عادة تتفق وقيم كل فئات المجتمع كما تساهم في انسجامه وتماسكه، فهذه عادات وتقاليد إيجابية أفتخر بها، لكني لا أؤمن بكل عادة فيها ظلم وقهر لفئة معينة.

لا تجعل “سيقولون” حاجزاً يحول بينك وبين طموحاتك وأهدافك، اجعل كل انتقاد يدفعك إلى الأمام لا إلى الوراء، وتذكر أن الضفدع ما كان ليصل للقمة لو أنه سمع شيئاً مما قيل له أثناء السباق، كن مؤمناً بطموحاتك وأحلامك، كن واثقاً من نفسك، من قدراتك وطاقاتك، تأكد أولاً أن حلمك أو هدفك لا ينافي القيم الدينية والأخلاقية النبيلة ثم امضِ قدماً، واعلم أن الله لم يزرع فيك رغبة الوصول لأمر معين إلا لأنه يعلم أنك ستصل إليه.

وعندما تفعل كل هذا، ستعي حتماً أن “سيقولون”، ذلك الصوت الذي يتردد في رأسك، ما هو في الحقيقة إلا عذر تختبئ وراءه لتخفي كل علامات ضعفك وعجزك، ستدرك أنه مجرد شبح من صنع تفكيرك وخيالك أنت، ومتى تحررت من قيود “سيقولون” خرجت من عباءة الخوف من المواجهة، وانطلقت نحو آفاق شاسعة لتبني سلماً يرتقي بك نحو النجاح.



1xbet casino siteleri bahis siteleri