أحاديث في عقول المجانين‎

قرأت الكثير من الحكم والأقول يضرب فيها المثل بالمجانين, بالأخص أولئك الذين يعيشون في عوالمهم الخاص ويبتكرون “سعادتهم” الشخصية, والتي على الناس ” العاديين أن يقتبسوا منها الشيئ القليل ليكونوا مبدعين بمعنى الكلمة .
كنت أمشي مع هذه الكوكبة في نفس الخط, وأساير أقوالهم محاولة التحلي بمثل هذه “الخصال” : الخصال الجنونية لأكون في مرتبة الإبداع الكافية لإنتاج شيء جديد, وإضافة معنى لحياتي التي طغت عليها الرتابة.





كنت أحسب أن فعل كل مايحلو لي هو الجنون, وأن كل فكرة تدور في بالي “عليها” أن تنزل لأرض الواقع لأنها قد تكون تلك الفكرة الجنونية التي ستغير مجرى كل شيء. وظللت بهذه النظرة والرؤية للأمور لسنين إلى ان علمت حقا ما معنى “الجنون”.
أمضيت أسابيع كطالبة علم في مستشفى المجانين”حقا”, أولئك المرضى الذين نصنفهم في مجتمعاتنا ضمن كلمة ” أحمق” أي فاقد العقل, حاولت الربط بين ماتعلمته من تلك الحكم وبينما ما أرى بعيني وأسمع بأذني. بحثت كثيرا عن ذلك المجنون الذي ضرب لي به المثل ضمن مئات المرضى.. لكنني وجدت شيئا آخر !
وجدت حقيقة الأمر عن الجنون, تلك الحقيقة التي قلبت موازين العقل في دماغي حتى وصلت إلى مرحلة الشك في سلامتي العقلية, وجدت عوالم غريبة اقرب للخيال منها للواقع لكنها منظورة ومشهودة في أعين المرضى,
اكتشفت لأول مرة السعادة البئيسة في أعين أم لا تعرف عن ابنها إلا أنها ترضعه, ولم تشعر بالسعادة إلا حينما حملت به, لكن أشد الحزن يكمن في أنها “مجنونة” لا مسكن لها إلا بين أنياب المغتصبين.. سعادة تنتهي بنهاية الرضاعة ونسيانها لفلذة كبدها لأنها لا تعيش إلا للحظات وذاكرتها لا تخزن إلا عوالم تربط بين الأشياء عن طريق شفرات خيالية تتجدد مع الزمن وتنتهي بقدومها للمستشفى مرة أخرى !


فهمت حدود خيال المرء اللامتناهية في الزمكان خلال الحديث مع “مجنون” لا يرى في نفسه إلا اجتماع نفوس البشر كلها وأنه مكلف بتليغ رسالة إلهية لأنه في هذه اللحظة “نبي” وفي القادمة “آدم” والتي بعدها ” صاحب المائة اسم ” وفي كل اللحظات هو “ميت” ونعيش معه في عالم ” مابعد الموت” الذي يندثر ببدء مفعول الدواء أما عن الشعور في كل هذا فهو في الصفر أو في العدم أو في اللاشيء, ربما في مرتبة لا يسعها عقل “السليم” !
أدركت حجم نعمة الاعتدال التي نعيش بها في حياتنا بعدما سمعت وصف هوس السعادة التي يعيش فيها “مجنون” شاب, كان ملخص وصفها بالحياة الوردية لأن فيها يغيب الأنا الأعلى فيفعل مايحلو له, يخطط لمشاريع مافوق الأحلام, ينفق نفقة الباسط يديه كل البسط, يتخلص من قواعد المجتمع, موازين العقل البشري, وخطوط القيم الحمراء, يستمتع في عوالمها بالسعادة ويفقد الذاكرة لاإراديا لما بقي من الأمور, ثم يستغرب بعد سماعها حين “يتزن” بفعل العلاج ثم يدخل في دوامة الدهشة والفجأة من نفسه, ويبقى بين شخصه الذي ينكر كل الأمور والغير الذي يقر له بالعيش معه فيها !
فقدت ميزان الحكم على الأمور بعد مراقبة “مجنونة” وصلت لمرحلة الرجوع إلى الوراء حيث يصبح الراشد رضيعا مرة أخرى لا يتحكم في أي شيء, يتصرف تصرف الأطفال بل يعيش عيش الأطفال دون أن يتعلم وهو شاب في زهرة العمر, لا يتذكر إلا اللحظة التي يعيشها ولا يذكر شيئا آخر بتاتا, يعيش في عوالم أقل ما يقال عنها أنها تقفد المتزن ميزانه.




مقالات مرتبطة

مشاهد عديدة, وأحاديث قصصية نتأكد من خلالها ان مابين “العقل” الذي يعرفه المجتمع ككلمة عامية و زلزلته, بينهما لا شيء, في لحظة من الزمن تننقلب الأمور على أكملها, ويصبح عاليها سافلها, بل تتغير تعاريف الأشياء وتتجدد المسميات فنستخلص جيدا معنى “النسبية”.


لا شيء مطلق في هذه الحياة, كل التعاريف نسبية, مسمياتنا للأمور تنطلق من منظورنا لها أو من خلاصات دارسين لها, تتبدل مع رؤية عالم جديد يعرفه لنا مبدأ “الجنون”
نسبية السعادة, نسبية الثبات, نسبية الصحة والاتزان, نسبية كل شيء قد يساعدنا فهمه في إدراك قصر العمر مع امتداد اللحظة, و معرفة ان مقياس الحياة بالسعة وبما قد عملنا فيها وربما بما أنتجت عقولنا من خيالات شائكة بدورها نسبية !
اعتذرت في داخلي “للمجانين” كما نسميهم لأن المجتمع كون لي فكرة خاطئة عنهم, ظلمتهم حين حسبتهم سعداء وهم يعانون أشد أنواع المعاناة التي يمثلها أسلمهم بأنها أشد من ألم اجتماع جميع الأمراض في الجسم, وحين حسبت اقتباس طريقة تفكيرهم مفتاحا للإبداع بيد أن لا تفكير لديهم طالما لايزالون في ذلك العالم ولم ينقلهم قطار العلاج إلى عالمنا.
كففت عن ضرب المثل بالمجانين في مخيلتي, وعذرت من اقتبسبت منهم الفكرة .. فلربما قصدوا شيئا آخر لم أفهمه, ربما قصدوا ذلك الإنسان “السليم” الذي لا يتبع القافلة في كل شيئ, بل يخرج من الدوامة ليكتشف العالم بطريقته, ولا ينقاد بطريقة التفكير السائدة والنمطية, بل يبحر في سعة فكره باحثا عن أحجيات خياله وحلولها داخل معنى المنطق فلا ينفك حتى يصيرها واقعا بعد أن كانت مجرد خيال.
ختمت أسابيعي هناك برؤية السعادة في خشوع من كان “مجنونا” وهو قادر على الصلاة كما يجب. فترددت في داخلي معاني قوله تعالى ” وكان الانسان أكثر شيء جدلا” ” هل اتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا” وقوله ” ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ”




1xbet casino siteleri bahis siteleri