الكتابة… صمت صارخ

حدث ذلك قبل بضع سنوات من الآن، حين أنهيت مطالعة لرواية اقترحت علي من قبل صديقة لي، من روائـع إحدى أيقونات الأدب العربي، كانت أول تجربة لي لحلاوة العسل، عندها فقط انتابتني رغبة جامحة في أن أجرب حظي مع الكتابة علها تحمل شيئا مما تراكم على تلك العضلة. هنالك في الأعماق، حيث الخبايا والأسرار كتلك الكامنة في أعماق البحار، في لحظة باغتتني تلك الرغبة في أن أخط وأخط، لا أعلم إن كانت مواضيع الرواية هي من أحدثت فوضى حواسي، أم أن جوارحي ارتأت على حين غرة الثورة، ثارت كي يُكتب أخيرا للكلمات التحرر، تحررت بأسرع من سرعة الضوء وكأنها سلبت حريتها منذ الأزل فما حاولت ـ ولو كان على سبيل التفكيرـ  فرملتها لأنها تجندت بعزيمة أقوى من كل اعتبار، كل ما ارتأيت فعله على وجه العجلة الإتيان بما سيحتوي تلك الصهارة الفائقة درجة الغليان التي كانت على وشك الانفجار.

مازلت أتذكر المشهد وكأنه حدث قبل لحظات، جعلته من أجمل الذكريات التي أحملها؛ إذ كنت بصدد الاستعداد لامتحان الرياضيات وقد تملكني الملل منها فقد كانت من أنذل المواد لدي، كنت دائما في دوامة تفكير وتفكير لا ينتهي أبحث عن سبب تلقيننا لتلك المادة وما أرى فيها أية منفعة ملموسة ربما من المنهج الذي تدرس بها، حتى أني سألت أحد مدرسيها يوما عنها قال أنها مادة سلطوية فرضت نفسها في المناهج التعليمية، التمست تهربه من الجواب، فتأصلت الفكرة التي حملتها إلى غاية أن تناقشت الأمر مع أستاذ كفء متقاعد فانهالت عليه العبارات في مدح لذلك العلم حتى أنه وصفه بالعلم النبيل؛ حيث بدأ يحكي عنه وكأنه أسطورة كانت الخير المديد على البشرية جمعاء ليخرجها من ظلام إلى نور، أسقطه على حيواتنا فإذا بي أعمل عقلي، كيف لهاته المنظومات الفاشلة أن تسوده، أليس مجحفا أني كرهته؟ أليس ظلما أن يفقد ديكارت نبله في دوامة منظومة تعجيزية تجدر فيها الفساد؟ مع الأسف، لم يسعفني الوقت كي تتغير الصورة السوداء التي أحملها، لكن أضعف الإيمان تحقق، فقد نزعت عنه السواد لأضعه في موضع يكبرني كثيرا، هنالك، حيث لا أقدر حتى لمسه، أحترمه وكفى .. لكن وإن لم أستفد فيه بشكل مباشر.

مقالات مرتبطة

كانت تلك اللحظات خير مناسبة لانبثاق حياة في أحشائي، قمت بقفزة نوعية فمن دراسة الدوال والحساب المثلثي وجدتني أمام ورقة خضراء بمربعات لازالت صغيرة، لم أعِ إلا وقد ملأت سطورها بقلم لبدي أسود، كلمات خطتها أناملي وأنا في أعلى درجات الخشوع الإحساني، احتوت كل ما وعيته بعدما أفرغت ما يثقل صدري. كـان إحساسا رهيبا حتى أني لم أفلح في نعته، كل ما تمثل أمامي الآن أنه كان راحة لا مثيل لها وكأني قد أنهيت للتو تلاوة لآيات عن جنات الخلد، وكأني حالفت النصر في مباراة لكرة السلة، كأني أطير إلى جانب الطاووس على سبيل إيضاح الصورة أكثر، وما توضحت.

لقد أتت الكتابة لترفع عني وشاح الغم، أتت لتحمل عني عبئا يثقل صدري، وكأنها تمد يد الدعم وأنا أحاول حمل هم يزن الأطنان، فأجدني أحمل شقا وتتولى بقية المهمة، أتت لتلقنني دروس التحليق في الأعالي، في عالم مقوقع في مكان ما في السماء، فما فتئت رغبة الكتابة تلاحقني أينما حللت وارتحلت وهي التي لا تعترف بالمادي، فقد أكون في الشارع، في الحافلة، وقد تتطاول علي وتصل بها الوقاحة لتتركني حتى أتوجه القبلة فتنهال علي الكلمات من حيث لا أحتسب مشنة بذلك احتجاجات مطالبة بأحضان تحتويها، وما بيدي حيلة، أترك ما يشغلني فأستجيب لها، بعدها أبحث عمن يقرؤها فلا أمنحها لأي كان بل أنتقيه بدقة عالية لتحفني تعاليقه، ولا مانع لدي إن كانت انتقادات تشحنني أيما شحنة، كي ينقشع الغبار على حلم هو الآخر كتب على مذكراتي، بل وطبع على جدران قلبي بماء من ذهب لا تمحيه أعنف تسوناميات الحياة، وأنا على العهد باقية.

1xbet casino siteleri bahis siteleri