محاولة البقاء في دار الفناء

1 3٬641

ربما لم يتصور أحد أن هذا ما ستؤول إليه حياته … أيام من الملل والرتابة … شهور من الحرص … سنوات من الترقب … في انتظار شيء ما سيحدث … شيء يغير سيرورة الأشياء، أو حدث يقلب مجرى الأحداث.

نلتقي شخصا ما. تدفعه الحياة إلينا في وقت تكون فيه القلوب مهيئة والنفوس جاهزة. شخص – يظهر أنه – مختلف عن الآخرين. نظن أنه سيغير من واقعنا شيئا أو أننا سنتغير بمجرد العيش معه. نكون مهيئين لكي نضخم من مميزاته و نعظم من شأنه فقط لأنه عرف كيف يكتشف الجانب الذي نحاول أن نخفيه، أو وجدنا فيه ما حاولنا جاهدين أن نزين به أنفسنا، لأننا على العموم لا نرى الأشياء في حالتها بل نراها انطلاقا من حالنا. نرى نواقصنا الباطنة في تمامه الظاهر. نظن أن عنده ما نحتاج، لأننا نحتاج لشيء لا نعرف ما هو، شيء ينقص ذواتنا لكي تكتمل، فنظن حينما نرى اكتماله الظاهر بأنه يملك ذلك الشيء، فنبدأ بالتعظيم والتبجيل والتمجيد. نتصور أنه الوحيد من دون الخلائق الذي يمكنه أن يخرجنا من الضوائق ويزيل عنا العوائق … وكيف أن الساعات الطوال في المقاهي والمطاعم والمنتزهات والشواطئ والحدائق تتحول معه إلى بضع دقائق … نحاول أن نهرب إليه من حياة لم نجد لها معنى بعد، وننسى به قدرنا المحتوم الذي سيضع حدا لتواجدنا بين البشر ولوجودنا في هذا العالم الذي نحس فيه بالغربة ولم نتأقلم معه طوال هذه السنين لأننا لم نفهم بعد ماعلينا أن نفعله لكي يبدو لنا أكثر وضوحا، وما عساه يكون دور الإنسان إن قارناه مع هذا الكون الشاسع؛ يشبه حبة صغيرة في صحراء فسيحة.
.

مجرد التفكير في قوة الإنسان المحدودة جدا وعمره القصير جدا بالمقارنة مع قوة وعظمة وعمر هذا الكون يشعرك بالخجل والاحتقار والتفاهة. ربما يسعى الفرد لامتلاك أكبر شيء وأفضل شيء في أسرع وقت لكي يدفع عنه هذا الإحساس بالضعف الشديد.

يحاول الإنسان جاهدا أن يحتمي بقوة رمزية يستمدها من علاقة شديدة العمق بشخص آخر أو مال أو سلطة أو شهرة. هذه الأوهام تمنحه سندا، وإن كانت مؤقتة وواهنة، يبني عليها معنى ما يعطيه لحياته … هذه الأوهام تمنحه بعض الثقة أيضا … تخرجه ولو لحين من شعوره الدائم بالعجز أمام أسئلة لا أجوبة لها و إحساسه المزمن بالانكسار أمام صعوبة تقبل واقعه المر؛ أنه مهما فعل ومهما اجتهد ومهما تقوى فإنه سيأتي اليوم الذي سيتذوق فيه ألم المرض وعجز الشيخوخة وسكرات الموت وأنه سيدفن … سيندثر … سينسى … سيختفي !

يحاول أن يهرب من هذه الأفكار … التفكير بمصرعه بعد أن تعود على ملذات الحياة المختلفة وتعلقت أمانيه بمشاريع وعلاقات وأبناء ، وبنى أحلاما يتوق لتحقيقها
يحاول الإنسان أن يخلد أو على الأقل أن يخلد اسمه لكي لا يشعر بأن الحياة التي منحها كل حياته ستأخذ منه في لمحة بصر كل الحياة … هكذا … بكل بساطة !

يقول إرنست بيكر في كتابه الشهير “إنكار الموت”:

“ماذا يعني أن يكون المرء كائنًا حيًّا واعيًا؟ الفكرة هي سخيفة، إذا لم تكن وحشية. فهذا الأمر يعني أن يعرف المرء أنّه سيصبح غذاءً للدّيدان. هذا هو الرّعب: أن ينبثق الإنسان من لا شيء، وأن يكون له اسم، ووعي ذاتيّ، ومشاعر داخليّة عميقة، وشوق داخليّ للحياة وللتّعبير عن الذّات، ومع كلّ ذلك سيموت حتمًا.”

مقالات مرتبطة

يحاول الإنسان أن يقهر الموت بشتى الأشكال … “يقهر الموت من خلال الإنجاب” كما قال شوبنهاور وهذا ما يفعله العامة؛ أو أن يقهره من خلال أعمال بطولية أو تحفات فنية أو إكتشافات علمية أو إنتاجات أدبية وهذا ما يفعله الخاصة الذين يريدون أن يخلدوا أسماءهم وسيرهم لأطول وقت ممكن. رغم كل ذلك فلا يرتاح له للإنسان بال مادامت روحه التي بين جنبيه تواجه بين الفينة والأخرى رعب الرحيل عن الدنيا، ما دامت لا تعلم ما يوجد وراء ستار الفناء

يقول إرنست بيكر في الكتاب نفسه :

“لا يمكن أن يتحمّل الإنسان صغره ما لم يتمكّن من ترجمته إلى مغزى على أكبر مستوى ممكن”

ولا يوجد في نظري مستوى أكبر ولامعنى أوسع، ولا طريقة هنيئة مطمئنة يستطيع بها الإنسان أن يشبع بها حاجته إلى الخلود سوى ربط دار الفناء بدار البقاء، والاتصال الدائم مع من في سماء، وربط علاقة عميقة نقية مع ذي الجلال والجمال والكمال، والإنتقال بالروح والنفس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

تعجبني مقولة ليو تولستوي التي أعطى فيها حلين لا ثالث لهما لمن يريد أن يخوض غمار الحياة دون أن يطرح الكثير مِن الأسئلة الميتافيزقية التي لا نهاية لها :

‏For man to be able to live he must either not see the infinite, or have such an explanation of the meaning of life as will connect the finite with the infinite

“الراغب في الحياة إما أن يغمض عينيه عن غير المحدود، أو أن يقبل تفسيرا لمعنى الحياة يربط فيه بين المحدود وغير المحدود”

1xbet casino siteleri bahis siteleri