غزة وتازة

4٬758

قدر الله أن نخلد مئوية وعد بلفور المشؤوم بنكبة كبرى في مسلسل النكبات التي عرفتها القضية الفلسطينية، حين قررت أمريكا “أخيرا ورسميا” الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني المغتصِب. هذا القرار المشؤوم لم يكن إلا محطة جديدة في تاريخ السقوط العربي والإسلامي ونكبة فارقة بعد وعد 1917 وقرار تقسيم فلسطين سنة 1948، وإن كان التاريخ المعاصر مليئا بنكبات مرحلية. وفي الواقع كان يلزم أمريكا رئيس أخرق في عالم مليء بأمثاله، وحفنة من الخونة الذين لا يفقهون من سنن التاريخ شيئا ولا يرون إلا مقدمة أنوفهم كي يقمعوا شعوبهم ويوقعوا صك الاستسلام النهائي فيما بدأنا نسمعه عن “صفقة القرن” بل “صفعة القرن”…

لكن يجب الاعتراف أن القضية الفلسطينية لم يبق لها وهجها حاضرا في قلوب المسلمين، ويجب الاعتراف أن عمليات الإلهاء والاختراق التي وجدت نفوسا يملأها الوهن والخور، قد نجحت في إطفاء تلك الجذوة المشتعلة دائما والتي كنا نعيشها ما قبل اتفاقية أوسلو. ففي بلادنا مثلا، أصبح تضامن المغاربة، وإن كان دائما مبدئيا، أصبح في معظمه مناسباتيا يظهر صيته في المجازر التي يتعرض لها الفلسطينيون أو عمليات الهدم الكبرى للمقدسات والمباني التي يقودها الصهاينة. بل غدونا مثلا، نسمع حين كانت إبادة إخوتنا في غزة تجري على قدم وساق، أصواتا تتعالى بقول “تازة قبل غزة” بدعوى أن هناك بالمغرب من هو أحق بالمعونة، والأخطر أننا أصبحنا نسمع أصوات النشاز تتعالى بالتسبيح بحمد التطبيع والزيارات إلى الكيان الصهيوني تتوالى تترا، خصوصا في أوساط من يدعون النشاط في أوساط الأمازيغية…هؤلاء الذي لا يمكن وصفهم إلا بصفة الخيانة العظمى والنذالة والوضاعة، نسوا وتنكروا لمواقف علماء المغرب والعامة، أمازيغا وعربا، والذين كان لهم التضامن مع فلسطين عبر التاريخ من “باب المعلوم من الدين بالضرورة”، بل ثبت على مر هذا التاريخ أن حج المغاربة لا يكتمل دون زيارة القدس والمكوث فيها، بل أكثر من ذلك، أصبح لنا حارة للمغاربة، منذ عهد يعقوب المنصور الموحدي الأمازيغي الذي أرسل إلى صلاح الدين الأيوبي مددا من المغاربة الأشاوس من أجدادنا أغلبهم أمازيغ،  للذود عن القدس والمسجد الأقصى واستقر أحفادهم هناك، فكان فيها من الأوقاف المغربية قبل 1967 ما يفوق 270 مبنى هدم جلها في ما بعد حرب الستة أيام…

في الحقيقة، لست هنا في حاجة للتذكير بأن القدس والمسجد الأقصى هي من صميم عقيدتنا، إذ أنه اعتقاد جازم كالاعتقاد في الله ورسوله واليوم الآخر، لأن هذه البقعة المباركة، كما وُصفت في عدد من المواضع في القرآن الصالح لكل زمان ومكان، أصبحت بحكم هذا القرآن في عهدة المسلمين إلى يوم الدين، والمسألة ليس مجرد كيلومترات مربعة من الأرض، ولو كان الأمر كذلك، لكان هينا، لكن المسألة مرتبطة بأمانة حفظ الأرض المقدسة التي أوكلها الله عز وجل إلى المسلمين بعد أن أوكلها من قبل إلى بني إسرائيل ولم يحافظوا عليها. هذا هو الاعتقاد والوعي الذي يجب أن يكون لدينا، والذي يحاربونه فينا، وبناء عليه لا نعتبر الفلسطينيين إلا إخوانا لنا ينوبون عنا في حفظ تلك الأمانة في الوقت الراهن…

عندما قاد موسى عليه السلام بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة بعد عبوره من مصر، لم يجد معه إلا قوما متمردين غير مستعدين لحمل الأمانة، أمانة تلك البقعة المباركة، فكان عقابهم من الله هو التيه لأربعين سنة…40 سنة كانت كفيلة بانقراض الجيل غير القادر على المسؤولية، ويظهر جيل جديد الذي سيقوده يوشع بن نون عليه السلام…

في كتابه الرائع الذي أنصح به “هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس” يصف المفكر ماجد عرسان الكيلاني، الذي مات في صمت قبل سنتين، رحمة الله عليه، أحوال الأمة حين سقطت القدس بأيدي الصليبيين، وهي أحوال تشبه أحوالنا، ثم يسوق كيف كان صلاح الدين نتاج مرحلة من مائة سنة الإصلاح والانبعاث، وليس صلاح الدين الذي يُسوق لنا كقائد ملهم سوبرمان الذي حرر القدس بمفرده…يحلل الكيلاني في كتابه مظاهر فساد الحياة السياسية والدينية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية في المجتمع الإسلامي الشيء الذي نتج عنه سقوط القدس في أيدي الصليبيين، ثم يتناول بدايات عملية الإصلاح والتجديد التي بدأت بإصلاح التعليم، ثم الإصلاح السياسي الذي قادته الدولة الزنكية متأثرة بالمدارس الإصلاحية، والذي نتج معه جيل جديد أصبح قادرا على تحمل عبء الأمانة، ولم يكن صلاح الدين إلا فردا واحدا من أفراده، ثم يختم كتابه الرائع بمجموعة من القوانين والسنن الكونية التي يجب أن نحترمها في عملية النهوض هاته…

صحيح أننا نعيش زمن الاندحار في دركات الذل والهوان ولا زلنا في مرحلة السقوط الحر، لكن في وسط الحضيض يجب أن نصنع لأنفسنا أجنحة نوقف بها ذلك السقوط ونعمل على إعادة البناء في احترام تام للسنن الكونية، فعلى مدار 100 عام من وعد بلفور، لم تقم الأمة الإسلامية قاطبة بشيء يوحي بأنها في حالة نهوض، بل العكس تماما كان دائما حالنا عاملا مساعدا لأعداءنا، يهيئ لهم الظروف لمزيد من القتل المادي والمعنوي لهذه الأمة…نحن محتاجون فعلا للوعي بأهمية تازة وغزة، محتاجون لإعادة حفر القدس في معتقداتنا، والأهم من ذلك حفرها من جديد وبعناية وبوعي مقرون بالعلم والعمل الجاد والشاق في الأجيال القادمة، والتماس الإصلاح في شتى الميادين كما تفعل ذلك دول مثل ماليزيا وتركيا، لأن السنن الكونية في الأخير لا ولن تحابي أحدا….

تحميل كتاب “هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس”

تحميل ملخص كتاب “هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس” / ملخص 2

1xbet casino siteleri bahis siteleri