السفر رحلة نحو الذات!

أن يكتب المرء عن السفر ليس بالشيء الجديد، كثيرون كتبوا عنه وابدعوا من النصوص ما يسلب اللب ويذهب بالفؤاد، ربما يعبر الكثيرون عما يجول في خاطرنا بشكل ما، لكن أبدا لا يمكن لأحد أن يستعير منا المشاعر التي نحياها ونحن في خضم رحلة السفر، ذلك أن كلا منا يعيش تجربته بشكل خاص ومتفرد، فالسفر تجربة شخصية يحياها كل منا بطريقته الخاصة وبايقاعه هو.

مجرد التفكير في أنك ستخوض غمار رحلة جديدة يترك في قلبك مكانا لمشاعر متناقضة، تتمازج الأحاسيس داخلك ويدفع أحدها الآخر حتى تكون الغلبة للأقوى صوتا، تحرك كثيرا منا الرغبة في الاكتشاف والترويح عن النفس وتحرك بعضنا الآخر الرغبة في المغامرة وتجربة شيء جديد، أما آخرون فيتركون الأمر للصدف وينفتحون على كل الاحتمالات.

قد يهاجمك هاجس الهلع وأنت تخطو أولى خطواتك نحو قمة جبل لم تطا قدمك مثيله أبدا، ربما ستسأل نفسك “ما الذي أتى بي إلى هنا؟!”، “ما الذي أفعله مع هؤلاء الذين لم يسبق لي رؤيتهم قبلا؟!” “ما هذا الجنون الذي دفع بي إلى مكان كهذا…لا طير يطير ولا بشر يسير؟!”

مقالات مرتبطة

سوف تتعاظم هذه الأسئلة كلما مشيت قدما، سوف تقتلك مثيلاتها وأنت على حافة السقوط بعد أن زلت قدمك وتزحزحت عن مكانها وصار جسمك كقشة في مهب الريح، تبحث عن سبيل للتوازن والصمود دون جدوى!
ربما يسيطر عليك الهلع من كونك لن تستطيع إكمال المسير وربما سيعاندك جسدك رغم رغبتك في الاستمرار، ربما ستحبط كونك الأخير في الركب أو يستفزك أولئك الذين يستمرون في التقدم بغض النظر عن الظروف، مركزين في هدفهم ومصطبرين على ما يتطلبه الوصول من جهد وتركيز وجلد.

كل هذه المشاعر المتضاربة التي تعيشها فجأة تجعلك تطرح أسئلة أخرى أكثر عمقا واوجب للإجابة، في لحظة ما تترأى لك الرحلة التي تخوضها في عمق الجبال تماما كسفرك الطويل في خضم الحياة، تدرك في لحظة أن سفرك في الطرقات هو فرصة لخوضك رحلتك نحو الذات، هو موعد تضربه مع نفسك كي تخبرها أكثر، ففي سفر مماثل فقط تستطيع أن تعرف معدنك وما جبلت عليه، في رحلة مماثلة فقط تستطيع أن تدرك أي نوع من البشر تكون، هل أنت ذلك الذي يمضي في طريقه وحيدا غير عابىء بمن يلتقيه أم أنك لا تستطيع أن تستمتع بالطريق إلا مع رفقة تستحق العناء، فيصبح إنجازك الشخصي غير ذي أثر إذا لم يتزامن مع إنجازات مماثلة لمن حولك، لن يكون مهما أبدا أن تصل اولا أو آخرا أو أن لا تصل أبدا بقدر ما يكون مهما أن تصلوا معا، وأن يشد أحدكم بيد الآخر كأنه يخبره أن اطمئن نحن معا في كل شيء.


في قلب الطبيعة التي تحيط بك من كل جانب، تحوطك كما تحوط أبناءها وتقسو عليهم كي يكونوا أكثر جلدا على الحياة، تجد نفسك في مواجهة مباشرة مع ذاتك، أنت الذي كنته وأنت الذي ستكونه، أنت قبل أن تأتي وأنت بعد الصعود لأعلى قمة وطأتها إلى الآن…أنت الذي طالما كبلك الخوف من خوض تجارب جديدة، أنت الذي اعتقدت دوما أن جسدك لن يسعفك للمشي بضع كيلومترات فإذا بك تقتحم الجليد وتتحمل درجات الحرارة المنخفضة التي طالما شكلت مصدر هلع لك، أنت الذي اعتقدت أنك لم تعد قادرا على التعرف على أناس جدد ولم تعد تقدر على ربط علاقات جديدة تجد نفسك وقد انسجمت مع المجموعة وصرت كأنك جزء منها تضيع بدونها.
أنت الخائف من كل شيء والمتوجس تصبح أنت الذي يسكن في أعماقك لسنين دون أن تعير له انتباها، أنت الذي يختبىء هناك في ثنايا روحك يطفو إلى السطح فجأة، نعم أنت هو ذلك الذي ظهر دون سابق انذار، إنه أنت الذي يحمل من القوة ما تجهله ويحمل من الرقة ما يسمح له بالتغلغل بين الفجاج وفوق السفوح، أنت الاجتماعي بطبعك، البسام بطبيعتك، التواق لتجربة الجديد.

وأنت هناك تمضي بين البيوت المتواضعة التي تتوسط قمم الجبال لا يحول بينها وبين السماء شيء، وأنت تسير في طرق وعرة متسائلا كيف لسكانها أن يمضوا بين دروبها وقد خبروا كل شبر فيها بينما تتهجى أنت ابجدياتها محاولا فك طلاسيمها، ساعتها فقط تدرك أن الانسان لا يعرف المستحيل وأن الطبيعة مهما قست فإن الله رزق هذا الانسان المخلوق من دم ولحم قدرة على استغوار أكثر الأماكن استعصاء على غيره من المخلوقات وساعتها فحسب تدرك بما لا يدع مجالا للشك، أنك أيها الانسان خلقت لشيء عظيم عليك أن تقوم له!

1xbet casino siteleri bahis siteleri