سُنّة الطموح

ليس استهزاء ببعض المهن الشريفة الصعبة التي تتطلب جهدا نفسيا و جسديا رهيبا, لكن غالبا ما تهجم على خاطري مجموعة من الأفكار و التساؤلات عند تأمل عامل نظافة بالشارع،صبي بمحل نجارة، حرفي بسيط داخل ورشة متواضعة، نادل متفان في مقهى الحي، حارس السيارات بالشارع المحادي، بائع خضر متجول بين الأسواق, عاملة استقبال تكرر العبارات و الابتسامات أو خياط زين محله بما جادت به يداه…
أتأملها و أتساءل…أكيد أن كل شخص منهم يرغب في تحسين مستواه و تطوير ذاته بغض النظر ما إذا كان يستحضر معنى الرضا على ما هو عليه في تلك اللحظة, كون معنى الرضا لا يتنافى مع مبدأ المثابرة و الطموح و السعي نحو الأفضل. الأكيد الذي لا اختلاف عليه أن كلا منهم, له حلم صاغ تفاصيله في خياله منذ الصغر أو بدأ ينشأ معه وهو في خضم معاركه اليومية لعله يجد في ذاك الحلم الأمل الذي يتشبت به درءاً للسقوط, الأمل بأن عمله الحالي يمكن أن يكون مجرد فترة مرحلية طالت المدة أو قصرت, أنه تجربة يمر منها تشبه الابتلاء في قدرتها على بلو -إظهار- ما في النفس من مكامن ضعف و قوة و إرادة و أمل مستمر في التغيير تحقيقا لسُنّة الطموح.التجربة نفسها التي تدفعه إلى ترتيب أولوياته فتكون له دافعا لتطوير ذاته و إثراء طموحه للوصول إلى الهدف المرجو أو على الأقل تمنحه إحساس الفخر الملازم لرحلة السعي .
ربما تظهر الصورة قاتمة شيئا ما للرائي والملاحظ ذي العمل أو الوضعية المستقرة المثالية و هو ينظر شفقة لمن يكابد عملا يفتقر لكثير من مواصفات العمل المستقر الذي يشغله, للوهلة الأولى يبدو الأمر مثيرا للشفقة, فقد تبدو التجربة مريرة للكثيرين لكنها تحمل في طياتها عملية تجمع بين التعقيد و السلاسة, بين السرعة و التأني, بين التدرج و اللحظية, لبناء عزيمة إنسان ربما لم تكن لترى الوجود أو لتولد شرارتها لولا المرور بتجربة العمل الشاق.
أنسب مرادف للفترات الصعبة و تجارب العمل المضنية هو تصنيفها كمرحلة فقط ,شبيهة جدا بكرسي متمركز في قاعة انتظار, نجلس عليه لفترة وجيزة من الزمن ونحن نعلم أن هذه الفترة ليست طويلة المدة و ليست مضيعة للوقت بل الأمر يتعلق ببضع دقائق نمضيها في انتظار الانتقال إلى وضع آخر و مكان آخر بغية قضاء ما جئنا من أجله, و أنه من غير المعقول بل و من المنافي للفطرة و للطبيعة البشرية أن تقعد دون أن تبرح المكان, تجلس و أنت متيقن أنه في لحظة ما ستبرح المكان لتركه فارغا أو الأرجح أنك ستتركه لشخص آخر ليمر بنفس ما مررت به و يتعلم بدوره دروس الكرسي.

من المهم أن نتذكر أن الأمر لا ينطبق على من يصنفه المجتمع بالعمل دون مستوى التطلعات, بل كذلك الحال أيضا بالنسبة لمن لم يختر عمله بملء إرادته أو الذي انخرط في عمل لا يتناسب و قدراته و مؤهلاته أو ظل سنين في عمل لا يخدم حلمه و تطلعاته و صنفه بذلك في لائحة “ما اضطررتم اليه”.
العبرة هي في أن نعي أن الأمر مؤقت, و أن الأيام و السنوات التي تستهلكك في عمل أو مكان لم تبلغ فيه الرضا النسبي الذي يعتبر بمثابة وقود يحرك عطاءك لأطول مدة ممكنة,تلك الأيام و السنوات هي تجربة المفروض ان تكون محدد بزمن, هي لبنة عتيدة كبيرة الحجم قوية المكونات لا يستقيم استمرار البناء إلا بها, و أن الوقت آت لا محالة لترك المكان شاغرا إلى حين, لشخص آخر ليهيئ لبنة بنائه بدوره و تستمر بذلك الدورة و يستمر البناء.
بين الرضا و الطموح لا يجب أن نغفل عن أمر مهم جدا و هو ان من قدر لك المرور بالتجربة و غيرها هو نفسه من جعلك مخيرا لتُغير, مخيرا لتَتغير, مخيرا لأن تحلم و تطمح و تجتهد و تبذل كل ما لديك قبل التوكل للمضي نحو ما يشبهك, للمضي نحو المكان الأفضل الذي ستؤدي فيه أجمل أدوارك التي طالما حلمت بإحيائها واقعا جليا، ما سيتطلب مجاهدة مضنية و مواقف قرار محيرة و تجارب مؤذية معلمة ربما ستترك بعض الندوب, لكنها عند الوصول ستبدو العلامة التي تميزك عن غيرك, علامة إصرارك على” ألا تبرح حتى تبلغ”..أمام تلك التجارب و غيرها، الوقوف تأملا عندها طويلا غير مسموح, بل الواجب النهل من دروسها لتمضي نحو تعلم دروس أخرى مجَزءة تسهل عليك فهم الدرس الأكبر, درس الحياة….

1xbet casino siteleri bahis siteleri