من عاش طويلا سيقول لك حتما بأنه لا يتذكر أولى سنوات عمره لكنه يستطيع أن يحكي لك أدق تفاصيل طفولته التي تبدأ مع تشكل انطباعه الملائكي وتصوره المثالي للعالم. حينما كان يبدو له كل شيء جديدا وجميلا، وكان الفضول يحركه والجمال يبهره وأبسط الأشياء تسعده أو تحزنه، وكان كل شيء يبدو له غامضا ومحيرا، حينما كان يحاول أن يفهم ويتعلم ويكتشف ويتفاعل عفويا مع أحداث الحياة بكل الجوارح والأحاسيس … ثم سيذكر لك مغامرات وطيش وتيه سنوات ثورة المراهقة المؤقتة حينما بدأ يتغير المنظور البريئ والتصور الصبياني للأمور إلى رغبة جامحة للاستقلال وإثبات الذات والمطالبة بالحقوق والتمرد عن الواجبات مع كل ما يرافق ذلك من أحداث وحكايات وأسفار ومغامرات وإخفاقات ومعارك وإنجازات إلى أن يصل إلى منتصف سنوات الشباب حينما ينفصل عن الوالدين ويبدأ في التعامل مع الحياة ومع الناس بمفهوم الربح والخسارة وبمنظور المصلحة والمفسدة وتصور جديد للحياة أقل عفوية وأكثر مادية … سيحكي لك ذلك، ثم تنخفض نبرته وتتضاءل رغبته في الكلام لأن كل ما سيأتي بعد ذلك هو تأدية للواجبات وروتين قاتل وصراع بقاء مع الحياة … إلا من رحم الله … يقول بنجامين فرانكلين : معظم الناس يموتون عند الخامسة وعشرين ويدفنون عند الخامسة وسبعين … معظم الناس يموتون وهم أحياء … فمن “لم يعانقه شوق الحياة تبخر في جوها واندثر” كيفما خلاها أبو القاسم الشابي
