ليلة في الأمازون

تقدم جوزي إلى الأمام وفي يديه سيف تحسبًا لأي شيء يمكنه أن يباغثنا. كان دائما يردد جملته الشهيرة : لا يمكن أن تعرف ما يمكنه أن يوجد تحت القارب الذي يحملك في نهر الأمازون كما أنه لا يمكن أن تعرف ما يوجد حولك وأنت تتجول داخل الغابة ، لكن كل شيء سيكون على ما يرام. كان في كل مرة يقف ليشرح لنا أهمية بعض الأشجار وإستعمالها من طرف سكان الأمازون لأغراض صحية.شجرة “البريو” مثلا تستعمل لصناعة آلات الطبخ وصمغها يستعمل لعلاج آلام الرأس الحاد، بينما يستعمل حليب شجرة ال “أمابا” لعلاج السل ويستخرج من شجرة الليانا مادة الكينينو لعلاج الملاريا. قال لنا جوزي بإنه لا يذهب عند الطبيب في ماناوس إلا نادرا لأن كل ما يلزمه حينما يمرض موجود في الغابة.

الأمازون هي أكبر مختبر طبي في العالم، وهي مطمع كل شركات الأدوية العالمية؛ فمن سم ثعبان الجاراراكا يستخرح دواء الكابتوبريل الأكثر استعمالا لعلاج ارتفاع الضغط الدموي ومن هنا يستخرج الكورار الذي يستعمله أخصائيو التخدير لاسترخاء العضلات عند القيام بالعمليات الجراحية ويذهن به السكان الأصليون للأمازون رماحهم وسهامهم بغية ارخاء عضلات فريستهم ليسهل عليهم اصطيادها. يعيش في هذه الغابة التي تبلغ مساحتها ٧ ملايين كلم مربع أكثر من ثلث الكائنات الحية في العالم؛ يقول جوزي أنه إلى حد الآن لا زال يكتشف أنواعا جديدة من الأشجار والنباتات والحشرات والحيوانات والزواحف بعد كل هذه المدة التي قضاها في الغابة. يذكرني جوزي في كل مرة أتحدث معه بجدي رحمه الله الذي كان يقتات مما تنبت الأرض ويعيش على قوانين الطبيعة في جبال الريف، ويتصرف بكل تلقائية ولا يبادر بالكلام إلا نادرا.

عندما أطلب من جوزي هل بإمكاني أن أسألك عن شيء يقول : سأجيبك إن كنت أعرف الجواب وسأمتنع عن الإجابة إن لم أعرف. هذا الرجل الذي أنتجته هذه الغابة الأسطورية لا يعرف الكثير من الأشياء عنها، و لا يحرجه ذلك بتاتا؛ يجيب فقط ب : “لا أعلم” بدون أن يبرر جهله أو أن يعطي معلومات مغلوطة. لا يعيد جوزي المعلومة مرتين ولا يذكرك بالشيء عدة مرات ولديه انضباط خطير في المواعيد إلى درجة أنك تشك كونه إنسانا آليا في صورة بشر. عندما وصلنا إلى مكان المبيت، أعطاني جوزي الحبل وقال لي : أنظر كيف سأقوم بربط الهاماك في الشجرة. فهمت مغزى كلامه. سأكون من سيربطه المرة المقبلة، أو أنه سيأمرني لاحقا بربط هاماك الصيني أو الفرنسي. ذكرني بالطريقة التي تعلمنا بها الجراحة.

فريق معاني مع جوزي

تشاهد ما يفعله من هم أقدم منك بدون طرح الكثير من الأسئلة لكي لا تكون ثقلا عليهم، لأنك في يوم ما وبدون سابق انذار سيعطونك أدوات الجراحة لتفعل ما كانوا يفعلون أو ستتهم بالبلادة وعدم الكفاءة. هذه هي الطريقة التي تعلم بها جوزي أيضا حرفته، قال لنا بأنه قضى أشهرا مع مروضي أدغال الأمازون والكثير من السنوات يكتشف لوحده أسرار هذه الغابة. أعطاني جوزي بعد ذلك فأسا وأمرني بقطع جذع كبير من الشجرة إلى أطراف صغيرة. سألته عن الغاية من ذلك فلم يجب. ذهب بعدها لكي يغسل بعض الخضروات ثم رجع ليجدني في معاناة مع قطع الجذع. يظهر لأول وهلة بأن الأمر سهل، لكن يتطلب ذلك جهدا وتركيزا شديدين.

مقالات مرتبطة

قام جوزي ببعض الضربات الخفيفة في مناطق مختلفة من الجذع ثم أعطاني الفأس مرة أخرى قائلاً: سيسهل عليك قطعها الآن إذا تتبعت أين ضربت. بعدما انتهيت من قطع الجذع، أخد القطع الخمس من الجدع ثم أمرني بقطعها عموديا عكس ما كنت أفعل لكن بسيف أكبر هذه المرة. بقي أمامي ينظر لدقائق ثم ذهب ليحضر في يده طنجرة مليئة بالخضر المغسولة. أخذ مني الخشب ثم أعطاني سكينا صغيرا وقال لي : قم بقطع هذه الخضراوات. سألته : وماذا سنفعل بالخشب الذي قمنا بقطعه؟ … نظر إليّ مبتسما ثم أخذ قطعة صغيرة من الخشب وقام بقطع طبقات دقيقة منها وقال : بهذا سنشعل النار، سنحافظ على إحتراقه بالخشب الذي قمت بقطعه. نظرت إلى الإناء ببلادة وكأن الجواب كان بديهيا جدا ولا يتطلب أن أحرق كل أوراقي أمام جوزي الذي لا يحب أن تكثر عليه بالأسئلة. بعد قطع الخضروات، قام جوزي بإخراج سمكة بيرانيا كبيرة من حقيبته ثم ثبتها في غصن كبير. أشعل فتيلا من النار ثم وضع عليها بعض القش وطبقات الخشب الدقيقة. وقال لنا : تعالو معي. أخذ هذه المرة غصن كبير مِن شجرة البريو ثم حولها إلى ملعقة بسكينه وقال لنا : بهذه الملعقة ستأكلون. ثم أخد أوراق كبيرة من شجرة الموز وقام بتحويلها إلى صحون محكمة الإغلاق بطريقة إبداعية ذكية وسريعة وقال لنا : وفي هذه الأطباق سنضع الطعام. ثم قام ليضع طنجرة الخضروات وسمكة البيرانيا الكبيرة فوق النار المشتعلة التي بدأت تضيئ لوحدها المكان الذي كنّا فيه.

بعد أن أسدل الليل ستاره محولا أخضر الغابة الخصب والبهي إلى ظلام دامس، توقف الزمن وانفصل العالم على الوجود وخيم هدوء ساحر مهد لأحد أجمل السمفونيات التي سمعتها خلال حياتي شاركت فيها جميع مخلوقات الغابة وكأنها ترحب بمقامنا بينها وتتمنى لنا قضاء ليلة سعيدة. لم أميز من هذه الأصوات سوى نقيق الضفادع وصرير الجراد وجرس الطيور وضحك القردة. أصوات مختلفة لكن متناغمة. أصوات لم أعرف مصدرها ولَم أرد أن أسأل عنها لأنها بدون شك لزواحف وحشرات وحيوانات مخيفة عكس أصواتها العذبة التي تطرب القلوب. حاول جوزي الانسحاب إلى مرقده مباشرة بعد تناول وجبة العشاء. قلت له : مهلا جوزي، لم يحن وقت النوم بعد. لا زلت أحمل الكثير من الأسئلة التي لم أَجِد لها جوابا. أجاب : إنني منهك أيها المغربي، لا أستطيع أن أجيب عنها الآن. ربما لم يحن وقت النوم بالنسبة لك، لكنه وقت نومي. يجب أن أستيقظ باكرا غدا لقطع الأشجار وتحضير الفطور لكم قلت : لكنك وعدتني بذلك. قال : لم أعدك ولكن قلت لك بأن الليلة طويلة في الغابة وربما ستجد الأجوبة عن كل أسئلتك عندما تقضي ليلتك بها. ليلتك سعيدة أيها المغربي.

 

لم يكن هناك شيء يمكنني أن أفعله سوى أن نصور أنا ومهدي بعض المقاطع أمام النار المشتعلة لكي نستعملها في برنامجنا الوثائقي. بعدها ذهب كل منا إلى مرقده لأنه من الصعب جدا أن تفكر في أن تذهب إلى مكان آخر دون الفراش المعلق في الأشجار “الهاماك” الذي سأنام فيه. وجدت نفسي مستلقيا على ظهري على الساعة الثامنة إلا ربع، أي حوالي ثلاث إلى أربع ساعات قبل الوقت الذي اعتدت أن أنام فيه. بدون أنترنت، بدون تلفاز،بدون مكالمات.، بدون كتب، بعيدا عن المشاريع والمحاضرات، بعيدا عن كل ما يمكنه أن يشغلك عن نفسك. وسط الظلام، فوق الهاماك الذي يميل يمنة ويسرة، تذكرت بأن بطاريات هاتفي لا زالت شبه مملوءة. بدأت فورا بكتابة بعض الخواطر وتنظيم بعض الأفكار لكي أرتبها فيما بعد على شكل مقالات.

قبل أن تنفد البطاريات، دخلت إلى الواتساب. وجدت الكثير من الرسائل التي لم أرد عليها. دخلت إلى كل رسالة وبدأت أتأمل في صور كل هؤلاء الذين أعرفهم، شيء ما تغير فيهم، الطريقة التي أنظر بها إليهم تغيرت، بدأت أرى جوانب أخرى في كل منهم غير الجانب/الدور الذي يلعبونه في نقطة التقاء حياتي بحياتهم. الدور أو الوجه الذي أعرفه تغير، بدأت أراهم على شكلهم الحقيقي. أطفال كبار، يحتاجون إلى من يفهمهم، وينصت إليهم ويجبر بخاطرهم، كل منهم يحاول أن يخفي جانبه الطفولي في دور يلعبه بإتقان، بكاؤهم ليس عفويا كبكاء الأطفال عندما لا يحصلون على ما يريدون. الأطفال على الأقل يبكون عندما يسقطون من الدراجة أو عندما يلعبون الكرة ثم يواصلون اللعب بالدراجة والكرة،عكس هؤلاء، عندما لا يحصلون على ما يريدون، تبكي أرواحهم ولكن لا يواجهون هذا الألم، لأنهم يعلمون بأن مواجهته مؤلمة، وأن فشل المحاولة مؤلم فيهربون إلى ما ينسيهم آلامهم، يبحثون عن استقرار، منزل محترم وسيارة محترمة لكي يثبتوا لمن حولهم بأنهم نجحوا. يضحكون في المقاهي، يتابعون فرقهم المفضلة، يشاهدون المسلسلات، يرقصون ويتسوقون وينسون أنفسهم في أعمال لا يحبونها وينغمسون في حياة لا يرضونها في محاولة بائسة لنسيان الطفل الذي يبكي بداخلهم. بعضهم ممن حاز كل شيء ولَم يبق لديه ما يسكت به بكاء روحه ينسى نفسه في إدمان معين. وبعضهم ممن ليس لديه أي شيء ينسي نفسه في إجرام معين قبل أن تنقضي بطاريات هاتفي دخلت إلى صور الهاتف وبدأت أنظر إلى صور أفراد عائلتي، أتمعن في كل منهم، شغلني عملي عنهم، تمضي الأيام والأسابيع دون أن أسأل عنهم، لا أستطيع الآن أن أكلمهم لأني في وسط أكبر غابة في العالم، لن أتمكن من مهاتفتهم لأربعة أيام. أحسست فجأة بالتقصير، أحسست فجأة بأنه في أية لحظة يمكن أن ينقطع الاتصال بأي أحد من عائلتي، لأنه كما أني انقطعت عن العالم لبضع أيام فيمكن لأي شخص أن ينقطع عن العالم في أي لحظة إلى الأبد، بدأت أفكر في أهمية عمل يشغل عن عائلة. انطفأ الهاتف، وانطفأت النار، وأصبح نور القمر وحده ما ينير شيء من الغابة. الساعة تشير إلى التاسعة والنصف.

فعلا، الأجوبة تأتي كما قال جوزي، جوزي وأمثاله من الكابوكلوص اللذين يعيشون على ضفاف الأمازون، وأمثالهم ممن يعيشون في الطبيعة ومعها ووفقا لقوانينها فهموا معنى الحياة لأنهم يعيشونها كما هي. بسيطة، صعبة ومؤلمة. الحياة ليست معقدة كما نظن أو سهلة كما نريد أن نجعلها، الحياة مؤلمة والذين يعيشون في الطبيعة يعرفون إيلامها وتقلباتها ويعرفون صعوبتها ويعرفون أن السعادة تكمن في تخطي كل مشكلة من مشاكلها أو تعلم كل درس من دروسها، يعرفون بأنه ليست هناك سعادة مطلقة ولا حزن مطلق. لا يطرحون على أنفسهم هذه الأسئلة التي لا أجوبة لها، لأنهم يعلمون بأن الحياة تعاش وكفى.

جوزي عندما يكون متعبا فإنه يذهب لينام، وعندما لا يعرف الجواب يقول لا أعرف، ولا يشتكي من صعوبة القطع لأنه يعرف بأن قطع الأخشاب جزء من الحياة كمن يشتكي من رائحة برازه، كما أننا نتقبل بأن رائحة الغائط كريهة في كل مرة نقصي فيها حوائجهم فإننا يجب أن نتقبل بأن طبيعة الحياة صعبة، عندما نتقبل ذلك فلن تصبح الحياة صعبة لأننا سنعتاد على طبيعتها الحقيقية. أمثال جوزي يسايرون الزمن، يتألمون عفويا كالأطفال في الساعات الحالكة، حينها يتألمون فقط، لا يهربون إلى أشياء أخرى، ينتظرون مرور الألم كما يفعل الأطفال لكي يكملوا طريقهم، وعندما يكون الزمن في جنبهم، فإنهم يشكرون خالق الزمن ورب الطبيعة على رحمته ومنه وكرمه. أمثال جوزي فهموا حقيقة الحياة. هو الآن ينام كالطفل. وأنا لا زلت أطرح على نفسي آلاف الأسئلة الغير منتهية في هذه الليلة الظلماء الطويلة. انتهى !

1xbet casino siteleri bahis siteleri