الجانب النفسي يلعب دورا جوهريا في تفاعل كل مريض مع خبر كهذا. مريضين بنفس النوع من السرطان من نفس السن ومن نفس البيئة يتفاعلان بطريقة مختلفة تماما أمام نفس الخبر؛ قد يغمى على أحدهما بينما لا يحرك الخبر في الآخر ساكنا. وقد تبدو على أحدهما علامات الخوف والحيرة فيبدأ بطرح أسئلة كثيرة لمعرفة سبب وقوع هذا المرض له بالذات وعن آخر ما وصل إليه العلم في أقوى الدول لعلاج مثل هذه الحالات الميؤوس منها بينما لا يتفوه الآخر بكلمة واحدة.
أطول الدقائق التي تمر بي أسبوعيا هي هاته اللحظات. هاته الدقائق التي تلي إخبار أشخاص كانوا إلى لحظة دخولهم إلى عيادتي يحملون أحلاما ومشاريع ولديهم طموحات وتوقعات وترقبات.
عندما يعم الصمت أمام الخبر الصادم؛ أو عندما تبدأ العائلة بالبكاء والعويل؛ عندما يخيم ذلك الهدوء المخيف الذي تنبع منه رائحة الموت، أحاول أن أكسر هذا الجو المشمئز بما قد يهدئ من روعتهم.
كنت قد شاهدت في الماضي البعيد فيلما وثائقيا إسمه “حقيقة الحياة الدنيا” للباحث التركي المثير للجدل عدنان أوكتار المعروف بإسم هارون يحيى. يبدأ هذا الفيلم بكلمات لم تمسح من ذاكرتي، مقدمة أحفظها عن ظهر قلب تهاجمني في مثل هذه اللحظات التي أتحدث فيها إلى مريض لم يكن يعرف بأنه أقرب ما يكون إلى النهاية :
“يرقد في كل قبر من هذه القبور أحد الناس الذين كانوا مثلكم تماما، ربما كان هؤلاء أيضا يتصفحون الإنترنت كما تفعلون أنتم الآن، وكانوا يستيقظون صباحا ويغسلون وجوههم ويأكلون ويذهبون للعمل، كان لكل منهم في وقت ما أقارب يحبونهم وأسوة من الناس يقتدون بهم، وكانت لهم مساكن وسيارات وفواتير يطلب منهم دفعها، كانت لهم اوقات خاصة يحتفلون بها بأعيادهم ومناسباتهم، ربما لم يخطر في بالهم انهم كما كانوا يحتفلون بعيد ميلادهم فسيأتي من يتذكر يوم وفاتهم”
لا شك أَن نظرة كل هؤلاء المرضى للحياة ستتغير جدريا؛ لا شك أن حياتهم ستنقلب رأسا على عقب. الأصحاء يتساءلون دوما عن الطريقة التي سيموتون بها، بينما يفكر المرضى ممن وصل إلى هذه المرحلة من المرض عن الطريقة التي سيحيون بها من الآن فصاعدا.
أمام وصول السرطان لمرحلة متقدمة جدا كإنتشار سرطان البنكرياس مثلا في الكبد والصفاق والرئتين، لا يبقى للطبيب الجراح سوى كلماته الجارحة يعوض بهم مشرطه لكي يتقبل المريض ما سيحدث له لاحقا محاولا أن يوصل إليه فكرة بطريقة لبقة مفادها أن مهمته كطبيب جراح قد إنتهت، وأن هناك تخصصات أخرى تعنى بمثل هذه الحالات المتقدمة من السرطانات.
لا يخاف المريض بالسرطان من الموت بقدر ما يخاف من المجهول. وليس هناك مريض يحتاج للدعم الطبي والنفسي والروحي أكثر ممن نخره السرطان وأنهك قواه الجسدية والمعنوية. في هذه المرحلة يحتاج المريض لمن يرافقه في رحلته نحو المجهول؛ يحتاج لمن يواجه معه هذا المرض. يحتاج لعناية خاصة تساعده على تحمل معاناة المرض وتجعله يتقبل فكرة هذه النهاية بهذه الطريقة التي لم يكل يتوقعها. تقبلها صعب للغاية لكن دور مثل هذه المؤسسات التي تعنى بآخر لحظات المرضى المصابين بالسرطان هو ذاك، أن يموت هؤلاء المرضى بكرامة.
قد أجد ما أقوله عندما يكون للمريض المال الكافي لكي يقوم ببعض العلاجات في مثل هذه المؤسسات الخاصة النادرة. لكنني أحس بالعجز الشديد عندما يتعلق الأمر بمريض فقير مصاب بسرطان متقدم جداً في بلد الصحة متدهورة فيه جداً جداً … أقول له بأن المسألة مسألة وقت … يتعلق المريض بالحياة ويسأل عن الأمل … أقول في نفسي بأن الدراسات تقول بأنه سيكون في عالم آخر في بضع أسابيع … الأمل نخره المرض … يسأل عن العمل … العمل في الأدوية الكيميائية للتقليل من إنتشار المرض في مستشفيات بدائية أو مصحات غالية … يخيم سكوت محرج رهيب فلا هو يملك مال المصحات الخاصة ولا جهد الإنتظار الطويل في طوابير المستشفيات العمومية … يجمع أوراقه بصمت …
ينصرف بصمت …
وكأنه يقول: أعرف أين سأذهب : سأذهب لأموت كما يموت الكثيرون من هذا الشعب … في صمت.
تشخيص السرطان في مراحل متأخرة يصيبني بخيبة أمل، أحاول ما أمكن أن أخفيها عن المرضى، لكن دوري الأول كطبيب هو عكس ذلك تماما؛ دوري أن أعطيهم الأمل في الشفاء، فإن لم يكن هناك أمل في ذلك فعلى الأقل يجب أن أجعلهم يتصالحون في مثل هذه الظروف مع ذواتهم وإنسانيتهم. إنه من تمام الإنسانية أن نموت، وهو أمر يتجاوز العلم والطب؛ تقبل الموت يصالحنا مع طبيعتنا الضعيفة والمنتهية ويصالحنا مع الأشياء البسيطة التي نتنكر لها ما دمنا على قيد الحياة. النظر في وجه الموت لمدة طويلة ثم مصاحبته وعدم الهروب من المعاناة التي تحتمه هذه المعاشرة والتعود على فكرة أن الستار عن هذه الحياة قد يُسدل في أي وقت، تولد في الإنسان حياة جديدة وتضع له تحد جديد : أن يحافظ على نفسيته وروحانيته لأنهما سلاحه الوحيد أمام رعب المجهول الذي يوشك أن ينكشف.