ذنب اللحظة

لعل من أهم أسباب تخبطنا في الحياة هو عجزنا عن فهم ما تصنعُها من مفاهيم أولية.

مقالات مرتبطة

ولعل الزمن من أكثر هذه المفاهيم مركزيةً والذي يُغير نظرتنا للحياة كلما تغير فهمنا العلمي والفلسفي له.

سبق لي أن كتبتُ كثيرا عن قدرة الزمن في علاج جراحنا وإنجاح إنجازاتنا وكشف حقيقة الإنسان وأحجيته الداخلية. غير أنني اليوم سأعاين الزمن من زاوية الدائم والمؤقت، حيث كثيرا ما نفشل في التفريق بين الصفة والحالة فتجدنا نحمل اللحظة أكثر مما تتحمله ونتهمها بذنب لا يد لها فيه.

اللحظة بتعريفها أنها محدودة الزمان والمكان، فهي لا تمثل إلا ذاتها ولا ذنب لها فيما بنيتَه عليها من توقعات واستنتاجات ولا فيما حمَّلتَها من عقد أو مخاوف أو طموحات.

العاشق الولهان الذي كان يهيم حبا في معشوقه ثم رأيته بعد ذلك يهجره ويستبدله، لا يعني أن حبه ذاك كان كاذبا بل إن ظروف الحياة وأعراضها هي ما جعلت شعلة الحب تخفت إلى أن تختفي…

 

المناضل الشهم الذي رفع شعارات الكفاح وضحى بالكثير في سبيل قضيته، ثم خانها بعد سنوات من النضال، لا يعني أنه كان عميلا مدسوسا منذ البداية وأن كل صرخاته كانت كاذبة، بل يعني أنه لم يصمد أكثر في دربها وأن الإغراءات أو التهديدات استمرت حتى عجز عن الوقوف أمامها…

المؤمن الخاشع الذي ذرف دموعه تأثرا بكلمات دينه ثم تراه ينقلب على عقيدته وإيمانه، لا يعني أنه كان منافقا في إيمانه كافرا برسالته، بل قد يعني أن ظروفا جعلته يغير الكثير من افكاره ليتزعزع إيمانه وتفتر همته…

وكلها أمثلة تصنع اللحظاتُ تفاصيلها دون أن يحق لنا تعميمها في مرحلة من المراحل. لأن الإنسان لم يكن يوما صورة ثابتة يكفي أن نلتقط حالة واحدة لها حتى نعلم ما كانت وما ستكون عليه.

إن إدراكنا لفلسفة اللحظة هاته تجعلنا نهتدي لقناعتين مهمتين للغاية:

أما الأولى، فهي أن لا نعمم حكمنا على شخص بالإعتماد على لحظة معينة وأن نميل لحب الطباع والأسلوب أكثر من الإنجازات والكلمات، وأن نترك للزمن ما يكفيه من الوقت حتى يكشف ما خفي من الجوانب…

والثانية، وهي الأهم، أن نعيش اللحظة بكل تفاصيلها ونستغلها بالكامل، دون أن نقلق من انتهائها لأن زوالها أمر حتمي، ودون أن نهتم بتناقضها مع ما مضى أو مع ما سيأتي. فكثيرا ما تساءلنا بغباء في أجمل لحظاتنا عن امكانية ديمومتها بعد يوم أو عام، لننقص من جمالية اللحظة دون أن نظفر بتلك الإستمرارية التي تساءلنا عنها. وكثيرا ما تسلل الحزن لأسعد لحظاتنا عندما أوقفنا عقارب الزمن حتى نقلق على انتهائها قبل أن تنتهي فنفسد بذلك الحاضر بغباء مجاني.

فلا تحملوا اللحظات ما لا تطيقه من خيبات الماضي ومخاوف المستقبل، لأنها لا تمثل إلا الحيز الزمني الذي تمتد عليه، وما سوى ذلك من إستنتاجات هي جنايتك في حق نفسك….

1xbet casino siteleri bahis siteleri