كما لو أنه رمضانك الأول!

هل تتذكر رمضانك الأول؟ لا ليس أول يوم صمته وأنت لم تدرك بعد معنى الصيام ولا القيام ولم تستوعب بعد لم يصوم الناس، سوى أنك تصوم مقلدا أو متحمسا أو تحديا لذلك المارد الصغير الساكن داخلك والذي يصر دوما أن يقول لك أنك لن تفعلها!

أتحدث عن أول رمضان وعيت فيه معنى الصيام واستشعرت جمال العبادة وكمال المعبود…أتحدث عن ذلك اليوم الذي أحسست فيه أنك تتحرر من القيود الانسانية التي تكبل روحك وتمنعها أن تسافر في ملكوت الكون.

تتذكر ذلك اليوم حتما، أو فلنقل أنك تتذكر تلك السنة جيدا، تتذكر كيف كنت تخطو مسرعا للمسجد تتلهف روحك لبضع ركعات تنقلك إلى عالم آخر لا يعكر صفوه بشر، تذكر أنه كان عاما خاصا ومختلفا ذلك أنك أحسست كما لو أنها أول مرة تصوم فيها وكما لو أنه رمضانك الأول، تجرب فيه كل شيء بنفسك ولا تنتظر من أحد أن يخبرك عنه شيئا، لأنك أدركت أن رمضان تجربة خاصة وولادة من نوع آخر، تنعتق فيها روحك وكأنها نفخت لتوها في جسدك.

تتذكر أنك في تلك السنة كنت تستشعر أن القرآن أنزل على قلبك كما لو أنه يخاطبك وأنك ربما ختمته مرتين رغم أنك لم تخطط لذلك، لكنك وجدت نفسك تغوص في كل حرف فيه كأنك تغرق مدركا حلاوة البحر الذي تغرق فيه دون مقاومة.

كانت لك زاويتك الخاصة في المسجد، تجلس فيها مناجيا وباكيا ومتطلعا لفتوحات هذا الشهر الذي كان كما لو أنه يفتح نافذة على ملكوت لم تشهد مثيله قبلا، كل آية كان يقرؤها الإمام كانت كما لو أنها تخبرك شيئا، كما لو أن الوحي يحدثك وكان هذا كفيلا بجعلك شخصا آخر يقهر ضعفه وخوفه ويجد قوة في جسده تعينه على ما نوى من عمل صالح.

أنت تذكر أنك في تلك السنة أقلعت عن كثير من عاداتك السيئة واكتشفت فيك قوة لم تعهدها قبلا، لم تكن تعرف هل تلك القوة كانت استجابة لدعواتك التي استجيب لكثير منها، أم كانت شيئا كامنا بأعماقك كان ينتظر أن تكتشفه فقط.

أنت تتساءل الآن ربما أين ذهبت تلك القوة، كيف كنت تستطيع أن تدرس وتعمل وتتطوع وتعبد الله وتناجيه في لحظات خاصة جدا متحريا ساعات الاستجابة، تبحث اليوم عن بعض من تلك القوة، عن جزء من ذلك اليقين الذي كان يسكنك، تتحرى ساعات الاستجابة لكنك لا تدركها، يأتي رمضان عليك وتتعاقب بعده الأيام والشهور ويأتي رمضان بعده دون أن يغير ذلك فيك شيئا…

تذهب للمسجد تبحث عن تلك الرعشة التي اعترت روحك وجسدك ذات ليلة من العشر الأواخر، لكنك تشعر أنك أنت أنت وأن قلبك لا يزال في مكانه لم يمسسه شيء، تحاول أن تفهم أين هو الخلل تحديدا…لكنك لا تفهم شيئا…فرمضان هو رمضان، أنت هو أنت، المساجد هي المساجد لكن إحساسك برمضان ليس هو ذاته.

تحاول أن تفهم أين يكمن الخلل…تقول لنفسك ربما أخطىء الاجتهاد، ربما لم أعد أدرك ليلة القدر أو ربما لم تعد تستعد لرمضان كما يجب، ربما المشكلة في الاستعدادات وفي استقبالك للضيف القادم.

ثم تتذكر أن أول رمضان لك لم تكن تعرف شيئا عن هذا الذي يتحدث عنه الناس، أنه عليك أن تستعد منذ رجب لاستقبال رمضان، وأن العشر الأوائل هي تحضير للأواخر، وأن عملك في رمضان يجب أن يستمر بعد رمضان…أنت لم تكن تعرف شيئا عن هذه القواعد التي يستمر الناس في تذكير بعضهم بها، أنت لم تكن تتحرى ليلة القدر كي تكون لك فيها دعوة لا ترد بل كنت تتحراها لأنك كنت تسعى أن تنتقل لمكانة أرقى، أنت لم تكن تسرع للمسجد كي تزاحم الناس في الصفوف الأولى بل أي ركن في المسجد كان يفي بغرض المناجاة والصلاة، أنت لم تكن تضع حسابات معقدة ولم تكن تحضر لائحة أدعية كما تفعل الآن…
أنت تدرك الآن وأنت تحدث نفسك أن هناك اختلافا واحدا ووحيدا، أنك كنت تقبل على رمضان بقلبك المليء بالأمل، أمل أنك ستخرج من رمضان كما ولدتك أمك بدون شوائب ولا أدران، أنت تقبل على رمضان بلا انتظارات ولا توقعات ولا حسابات، بلا قواعد معقدة ولا لائحة طويلة من الطلبات…الأمر اختلف الآن فالاجتهاد حل محله الانتظار والغوص في معاني القرآن عوضه الغرق في تفاصيل البرامج والمسلسلات والأمل حل محله القلق واليقين عوضه الشك القاتل.

أنت تدرك متأخرا أن لا شيء تغير فرمضان هو رمضان وأنت هو أنت، لكن انتظاراتك ليست هي ذاتها ومحل الإقبال في قلبك احتله التفكير المضني الذي لا يكف عن وضع الاحتمالات.

لا شيء تغير سوى أنك لم تعد تعرف كيف تعيش رمضان كما لو كان رمضانك الأول! ولم تعد تعرف كيف تتحرى ليلة قدرك كما لو كانت ليلتك الأولى والأخيرة!

1xbet casino siteleri bahis siteleri