ماليزيا، شعوباً و قبائل لتعارفوا..

قَبَّلتُ أمّي بدموع حارة و ودعتُ عائلتي، حملتُ حقيبتي حيث أشيائي و بضع من مأكولات بلدي وتوجهتُ صوب المطار. كانت أول تجربة سيطول فيها غيابي من أجل دراستي. عشرة أشهر بعيدة عن أرض الوطن، متجهة نحو بلدٍ بعيدٍ، لا أعرف فيه من البشر أحداً.
حطت الطائرة في مطار العاصمة كوالالومبور. استقبلتنا الوجوه الأسيوية المبتسمة و نحن لا نكاد نفرق بين وجه رأيناه ووجه قادم صوبنا، ففي البداية كانت كل الوجوه متشابهة.
لم يمر يومان على قدومنا حتى استيقظنا على صوت المساجد، إنه عيد الأضحى المبارك، تهليل و تكبير ارتفع إلى أعالي السماء معلنا بداية يوم العيد. بسرعة توجهنا لأقرب مسجد في حينا كي لا تفوتنا الركعتان، كم هو رائع ذاك الإحساس صباح العيد. أناس من جنسيات مختلفة الكل متجه للمسجد و يردد بتلك اللكنة المتلعثمة التكبيرات. حضرنا الخطبة التي لم نفهم منها شيئا سوى الآيات و الأحاديث النبوية. بعد الانتهاء من الصلاة توجهنا لحضور مراسيم الذبح التي تختلف قليلا عن بلادنا، فهنا تشترك بعض العائلات في شراء البقرة نظرا لارتفاع ثمن الخروف ثم تجتمع لذبحها جماعة قرب المسجد مرددة بصوت واحد اسم الله العظيم.

هكذا تم استقبالنا بماليزيا، بأجواء روحانية عالية جعلتني أنسى إحساس الغربة يوم العيد، و كيف لي أن أشعر بالغربةٌ وأنا محاطة بشعب ما رأيت أطيب منه في حياتي. كنت قد قرأت قبل مجيئي عن هذا الشعب و سمعت مراراً و تكراراً عن طيبته، لكني لم أستوعب حجم هذه الطيبة إلا من بعد معاشرتي لهم. أفراد طُبعوا على اللين في المعاملة و حسن السلوك، الصغير يبادل الكبير الاحترام و الكبير يعطف على الصغير، لا تسمع منهم كلمة سوء أبداً بل كلامهم كله طيب، شعب يستحيي و لا يتوانى في تقديم يد العون. هذا الاحترام انعكس حتى في أسلوب التعامل مع السلطة، فالسلطة على مختلف مستوياتها تحظى باحترام الجميع؛ وبالتالي فالقانون يحكم الحياة العامة ويحقق تجاوب الناس مع سياسات الدولة.

ما يميز هذا الشعب أيضا هو تشبعه بقيم السلم و التعايش حيث تعيش ثلاثة أعراقٍ تحت سقف بلد واحد و كل عرق له حرية ممارسة دينه كما يشاء.

فالبلد يضم ماليزيين أصليين ( مالاي) تصل نسبتهم الى أزيد من 60 ٪ وغالبيتهم مسلمون، ماليزيين ذوي أصول صينية يشكلون نحو 25 ٪ من السكان، معظمهم من سلالة المهاجرين الصينيين خلال القرن التاسع عشر، ويتميزون بحنكتهم في التجارة ثم ماليزيين ذوي أصول هندية بحوالي 10 ٪ من السكان ومعظمهم ينحدرون من هنود الجنوب الذين هاجروا إلى البلاد خلال الحكم الاستعماري البريطاني وأحضروا معهم ثقافة الألوان مثل المعابد المزخرفة، والأطعمة الحارة و التوابل إضافةً إلى أقليات أخرى وأجانب.
و أجمل ما في الأمر هو مشاركة بعضهم في مناسبات بعضهم الاخر؛ فتجد الماليزي ذي الأصل الصيني يبارك رمضان و يحضر هدية العيد لصديقه المسلم الذي بدوره لا يفوته حضور الاحتفال مع صديقه بمناسبة رأس السنة الصينية. ترى قيم الحب منتشرة و درجة تقبل الاخر جد عالية. شعب متلاحم و متماسك لا يهمه عرق أو ديانة الشخص الذي يتعامل معه بقدر ما يهمه الاخر كإنسان ذي قيمة.

كل هذه الأخلاق الحميدة أثارت في نفسي اعجاباً و رحت أرسم صوراً في مخيلتي لدولنا العربية و قد انفكت من كل القيود و انصهرت الحدود فيما بينها إذا ما تشبعت هي الأخرى يقيم التسامح و عملت على ترسيخها في الأجيال الصاعدة. صحيح أنه ليس بالأمر الهين ولكنه ليس بالمستحيل.

تساءلت كثيرا عن السبب الذي جعل دولة كماليزيا تنشر، في وقت وجيز، قيم أخلاقية عالية. فكنت كلما تصفحت جريدةً محليةً وجدت في الجهة المخصصة
“للمناهج التربوية” مبادرات داخل المدارس تحث التلاميذ منذ الصغر على ضرورة الالتزام بالأخلاق الحميدة، يعلمونهم من خلال تطبيقات و ورشات كيف يكون المواطن الماليزي محبا لوطنه و متشبعا بالأخلاق و الآداب.

و هذا ما هو إلا مثال لبلد أراد الإصلاح فسعى لإصلاح التعليم أولا فحصد ثماراً وافرةً.

1xbet casino siteleri bahis siteleri