الباكالوريا … وماذا بعد ؟

 
عدت بذاكرتي أستحضر الأجواء التي رافقت إجتياز امتحانات الباكالوريا من دعوات الوالدين اليومية مرورا بعصير المشاعر المرافق لتلك الأيام الهيتشكوكية التي قضيتها أحل معادلات الرياضيات ومسائل الفيزياء في البيت إلى إعلان النتائج النهائية. كم هي مفصلية تلك النقطة في إختيار الدراسات المستقبلية و تحقيق الأحلام الشخصية. النقطة التي يطوى بها ماكان ويرسم بها ملامح ماسيكون عليها طالب باكالوريا اليوم.
أتذكر جيدا نقطتي المنتهية ب فاصلة 22 و كيف أن القبول في كلية الطب انتهى في فاصلة 21 …وكيف أن تمرينا في العلوم طبيعية أو جملة ذات معنى عميق في الفلسفة قد تخلق الفرق خلال هذه الامتحانات وتغير مجرى حياتك بالكامل.
 
نتخذ أكبر قرارات حياتنا في أولى سنوات شبابنا. قرارات لا تستند إلى معطيات كافية ورؤية واضحة لما ينتظرنا في الضفة الأخرى من الدراسات الثانوية. في المرحلة التي اجتزت فيها هذا الإمتحان لم تكن المعلومة متوفرة كما هو الحال اليوم. لم يكنن هناك أنترنت ولامبادرات الإرشاد والتوجيه والنصح لمن يجتاز هذا الإختبار المحوري، فكنا نختار طريقا لحياتنا بناء على آراء الوالدين والأمثلة القليلة جدا التي كانت تلهمنا في محيطنا الضيق إن وجدت؛ وكانت النقطة المحصل عليها هي من تكون لها الكلمة الأخيرة في ولوج هذه المؤسسة أوتلك بغض النظر عن مهارات وتطلعات وميولات الطالب.

 

أعترف أنني كنت أجهل ما كان ينتظرني من صعوبات وتحديات وطريقة تعليم مملة في كلية الطب التي اخترتها عن قناعة استمدت قوتها فقط من رغبة داخلية بأن أكون طبيبا. ربما لم تكن تتسم بالنضج الكافي لأني لم أسأل عن عواقب هذا الإختيار ولا عن الطريقة التي يدرس بها الطب خلال الثلاثة عشرة سنة التي تلت هذا القرار إلى أن صرت مختصا في الجراحة. قناعة لم تأخد بعين الإعتبار كذلك واقع الصحة المرير في بلد لا يستثمر في صحة وتعليم مواطنيه. أظنه كان حال أغلب الطلبة. منهم من انساق وراء اختيارات عاطفية خالية من التدقيق في الكيفية التي سيعيشون بها حياتهم الجامعية ومستقبلهم المهني، ومنهم من اختار لهم والديهم الجامعة أو المعهد الذي سيقضون فيه أجمل سنوات حياتهم .
لعلي كنت محظوظا حينما أجبت عن أهم سؤال يحتاج إلى إجابة في سن مبكّر، بأن كونت صورة ذهنية مسبقة لما أريد أن أكون عليه بعد عشرين سنة؛ الفضل يعود بعد الله سبحانه إلى الوالدين الذين وفروا لي ظروفا مناسبة لكي أحصل على نقط جيدة خلال الباكالوريا (تسجيلي في مدارس مرموقة وفِي مراكز تعليم اللغات وفِي مراكز مراجعة المواد العلمية)، وبفضل رغبة قوية أجهل إلى الآن مصدرها الحقيقي بأن أصبح جراحا. كنت محظوظا كذلك عندما قبلت في كلية الطب في آخر لحظة بعدما تمت إضافة آخر لائحة الإنتظار التي كانت تضم إسمي. وكنت محظوظا أيضا عندما إلتقيت بمجموعة من الزملاء الملهمين الذين خففوا عني وعورة طريق الطب الطويل.
 
بعد إمعان النظر جيدا في معظم من شاركتهم مدرجات كلية الطب، وبعد تتبع مسارات زملائي الذين تقاسمت معهم أقسام الثانوية، خرجت بخلاصة لعلها تكون نصيحة إلى التلاميذ الذين اجتازوا الباكالوريا : اختاروا لأنفسكم دراسات تحبونها ومستقبلا ترضونه، أو على الأقل لا تدفنوا أنفسكم وأنتم أحياء بنهج ثقافة القطيع فتموتوا قبل الممات أو تعيشوا شبه الحياة. الكثير من الذين كنا ننعتهم بالكسالى في مرحلة الثانوي نجحوا فيما بعد في حياتهم المهنية والمادية والأسرية نجاحا مبهرا لأن إختياراتهم وافقت رغباتهم الصادقة، كما أن الحياة المهنية لم تنصف الكثيرين ممن كانوا مجتهدين وكانوا يتقدمون القسم في النقط لأنهم اختاروا مدارس ومعاهد تناسب نقطهم العالية ولكنها لم تلامس أحلامهم الدفينة.
المهم هو النجاح في هذا الإمتحان فقط. النقطة لا تختبر ذكاء التلميذ ولا قدرته على النجاح في الحياة، لكن المنظومة التعليمية تأبى إلا أن تقسم التلاميذ إلى عباقرة وأغبياء؛ صالح وطالح. في الحقيقة أن الجميع عباقرة كما قال ألبرت إنشتاين، لكن إن حكمت على قدرة سمكة في تسلق الشجرة ستعيش حياتها كلها وهي تؤمن بأنها غبية. هذه المنظومة تفرض بطريقة غير مباشرة التوجه في مسلك يخيل للطالب بأنه الأمثل لكنه لا يكون الأنسب له فيدخل في دوامة من العبثية. يسير في مسلكه الدراسي بناءا على ما يراد له أن يكون لا ما يريد هو أن يكون.
السر لا يكمن في نقطة الإمتحان … السر يكمن في الإجابة على سؤال وجودي صعب : من أنت ؟ وماذا تريد أن تضيف إلى هذه الحياة ؟
السر في تعلم أسرار الحياة وتطبيقها على مجال التخصص؛ السر في تعلم مهارات الحياة لأنها من تصنع النجاح في ميدان التخصص، السر في الفضول المنبثق من شغف وحب الميدان الذي ستختاره كيفما كان نوعه .
الذكي من ينجح في الحياة، الذي يملك قدرة التأقلم مع التغيرات وقوة الصبر لتخطي العقبات؛ الذي يملك مهارات حل مشاكل الحياة اليومية وليس من يحفظ مقرر الثانوية أو الجامعة عن ظهر قلب.
1xbet casino siteleri bahis siteleri